حين يستنجد الحاضر بالماضي!
تمر المجتمعات عبر العصور وفي مختلف الأماكن بتغيرات وتحولات في مجالات عدة سواء في ملابسها أو أطعمتها أو بيوتها, ومجتمعنا كغيره مر بهذه التحولات بفعل التواصل الحضاري, وارتفاع مستوى المعيشة, وارتفاع الوعي والثقافة عند الناس, إضافة إلى الأمن والاستقرار الذي يتمتع به.
في السابق كان الناس يسكنون بيوت الطين إن كانوا من سكان المدن أو القرى, أو بيوت الشعر إن كانوا من البدو وسكان الصحراء, ثم بتغير المستوى الاقتصادي للوطن انتقل الناس إلى بيوت الأسمنت والخرسانة حتى تحولت المدن إلى بنايات أسمنتية تعانق مبانيها السماء لعلوها, وأصبح رعاة الشاة يتطاولون في البنيان كما تنبأ بذلك المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم.
ومع هذا التغير في حياة الناس في نوع مساكنهم حصلت تحولات ثقافية وسلوكية انعكست على علاقات الناس فيما بينهم, وفي حياتهم اليومية وفي أذواقهم, حتى إنهم مع الإبداع في تصاميم المنازل, ومع جودة المواد المستخدمة في بنائها أصبحوا يعدلون ويغيرون في التصاميم وفي المواد محاكاة لحياة الماضي بما فيها من مواد كالطين والسعف وبيوت الشعر, وخدمة لهذا الغرض وجدت تجارة لها متخصصوها ولها أسواقها ودعاياتها, ولها عمالها ومتفننوها. وتساءلت كثيراً عن سر عودة الإنسان إلى الماضي يبحث فيه عن عناصر يستحضرها ويجعلها جزءاً من حياته اليومية في مأكله أو ملبسه أو مسكنه, هل حياته الحاضرة فيها ما يكدر عليه صفوه؟ أم أن حياة الماضي فيها من الراحة والطمأنينة ما يجعله يحن إليها ويعبر عن هذا الحنين باستخدام هذه العناصر التي استخدمها الآباء والأجداد لأنه لا يوجد غيرها وهي المتوافر في البيئة في ذلك الوقت؟
تعجب من امرئ يجهد نفسه ويضع بيتاً من الشعر في زاوية من منزله رغم أن مساحة المنزل ربما تكون صغيرة, لكن العجب يزداد حين ترى فرداً وضع بيت الشعر في سطح لا تتجاوز مساحته 40 متراً. هل الغرام والحب لحياة الماضي يقود الناس إلى هذه التصرفات, أم أن حياة الحاضر فيها من العناء والمشقة ما يقود إلى البحث عن مصادر الراحة حتى ولو كان البديل لا يحققها عدا الناحية الشكلية التي تجعله مماثلاً للماضي؟! وفي سعيي إلى تفسير هذه الظاهرة عدت إلى التاريخ أبحث فيه فتذكرت أن العرب في الماضي اعتادوا أن يبعثوا بأبنائهم من المدن إلى الصحراء ليعيشوا فيها ويكتسبوا اللغة ويعتادوا على الأخلاق, والشيم العربية, وذلك أن ظروف العيش في الصحراء تكسب الفرد كثيرا من الخصائص التي لا تتوافر في المدينة كالشجاعة والصبر والكرم والإقدام وتحمل المشاق والعزيمة, كما أن الصحراء باتساعها ونجومها في الليل تسهم في بناء قدرات عقلية مهمة للإنسان في تلك الفترة, والظروف. الخيمة في السابق مفتوحة على هواء الصحراء وشجيراتها وسمومها وبردها وعلى التغيرات الجوية كافة, لكن داخل كتل أسمنتية ماذا يمكن أن تحقق الخيمة للفرد؟ هل مجرد الشعور بأن الفرد داخل بيت الشعر فيه متعة وسرور حقيقي أم أن هذا شعور كاذب نعبر من خلاله عن عدم الرضا عن حياة المدينة الصاخبة, وبما تحمله من ضغوط نفسية, ومتاعب لا حدود لها. صحيح أن حياة المدينة فيها الرفاهية ورخاء العيش وتوفر الإمكانات من ماء وكهرباء ومدارس ومستشفيات, وهذه معدومة في الصحراء لكن حياة المدينة جلبت معها كثيرا من العادات والقيم الغريبة, ولذا فإن الميل إلى استخدام أدوات الماضي هو تعبير لا شعوري, وعفوي عن عدم الرضا عن حياة الحاضر حتى مع المعطيات المادية المتوافرة في الوقت الراهن.
في ظني أن تعسف الأمور كما هو حادث من البعض حين يلجأون إلى حشر بيت الشعر في مكان صغير, أو في سطح المنزل ما هو إلا رفض لجوانب من حياة الحاضر خاصة ما له علاقة في بعض العادات, والقيم الوافدة مع حياة الحاضر بعناصرها المادية, وفي الوقت ذاته يبحث عن عناصر من حياة الماضي يسمع عنها من خلال القصص التي يرويها كبار السن أو يقرأ عنها في مصادرها.
حياة المدينة إضافة إلى جوانبها الجميلة أماتت كثيرا من الخصائص الجميلة, وخلقت أخرى غير حسنة كطغيان المادية, وقلة التواصل بين الناس, وبالأخص الأقارب, كما أن زيادة نسبة الجريمة في المدينة وتحول طبائع الناس بشكل عام يشكلان سبباً رئيساً في عودة الناس إلى حياة الماضي يبحثون فيها وينبشون عن عناصر ترويهم وتشفي غليلهم, خاصة حين يقرأون عن البطولات والأمجاد التي سطرها آباؤهم الذين عاشوا تلك الظروف القاسية, لكن هذا لم يمنعهم من أن يضعوا تاريخاً ناصعاً تتحدث عنه كتب التاريخ, ويتداوله الناس على ألسنتهم. إن انحسار الإنجازات المتسمة بالشهامة والشجاعة والبطولة يجعل الفرد يبحث عنها ولو بصورة غريبة في الماضي رغم أن استخدام عناصر الماضي لن يوجد لديه هذه الخصائص التي اتسم بها الآباء وحققوا بها ومن خلالها كثيرا من الأمجاد.