النظام العربي المريض
هناك شبه تدافع إقليمي على المنطقة العربية, وهذا التدافع ناجم عن حالة الوهن الكبيرة التي تعيشها المنطقة, وغياب فرص حقيقية للسلام والإصلاح, وتراجع في الدور الأمريكي ووضوح بعض المشاريع الإقليمية, بخاصة المشروع الإيراني والتركي. هذا الحضور يطرح عدة أسئلة في ظل التراجع الحاد للنظام السياسي العربي رغم المساعي الحثيثة لإنقاذه, في وقت تشهد فيه دول عربية محاولات شد وتحد لأمنها القومي, فيما تشهد دول أخرى محاولات انفصال, ناهيك عن التدخل الخارجي وأشكاله المتعددة.
تشير المتغيرات العديدة التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية في المشهد الجيوسياسي العالمي إلى دخول عالم اليوم إلى نظام التعددية القطبية, حيث شهدنا عودة روسيا كدولة وطنية لها مصالحها ومجالها الحيوي, وبروز الصين كقوة اقتصادية عظمى, وكذلك الاتحاد الأوروبي, وصعود نجم الهند والبرازيل و''مجموعة العشرين''. ولا شك في أن هذه المتغيرات ستحدث قطيعة مع نهج الأحادية القطبية للولايات المتحدة, وتفسح المجال أمام قوى إقليمية جديدة للعب أدوار مهمة في حيزها الجيوسياسي, وذلك على حساب الانحسار النسبي لدور الولايات المتحدة في بعض مناطق العالم, خاصة في منطقة الشرق الأوسط, نتيجة عملية إعادة التموضع الاستراتيجي العام, بعد المراجعة الشاملة التي أجرتها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمرحلة الرئيس السابق جورج دبليو بوش, إلى جانب تأثير الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة, والسعي الأمريكي للخروج من العراق.
ونشهد في المنطقة العربية, أو في المنطقة التي اصطلح عليها ''الشرق الأوسط'' تنامي الدور التركي, حيث يكشف واقع الحال أن تركيا وجدت الطريق مفتوحا أمامها للتحرك في المنطقة, في ظل التنافس والتصادم بين إيران وإسرائيل على الأدوار والمصالح, واستمرار حالة الانقسام العربي, التي عرفت معسكرين, واحدا للاعتدال وآخر للممانعة. ويمكن القول إن قوى إقليمية ثلاثة, هي إسرائيل وإيران وتركيا, باتت تتنافس بقوة في تسيّد هذه المنطقة, خدمة لمصالحها, وتحقيقاً لمشاريعها, ولسعيها إلى أن تهيمن على مجمل المنطقة العربية, بل على منطقة ''الشرق الأوسط الكبير''.
السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: هل تنامي الدور التركي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط يأتي على حساب أداور باقي الدول؟ أي هل يسبب تنامي هذا الدور تراجع دور الدول الأخرى, خصوصاً الدول العربية, أم أنه يتكامل معه؟ الواقع هو أن الانقسام العربي إلى محاور متعارضة, وغياب التنسيق والتعاون, وتعطيل آليات ومؤسسات العمل العربي المشترك, أسهمت في نشوء حالة من ''فراغ القوة'', وأفضت إلى انسداد الأفق العربي, الأمر الذي أتاح المجال لبروز قوى إقليمية جديدة, أخذت تقوم بأدوار مهمة في المنطقة, وصارت دول مثل إيران وتركيا وإسرائيل تمتلك أدواراً محورية, فيما تلعب الدول العربية أدواراً ثانوية في جميع ملفات وقضايا المنطقة, وبات النظام الإقليمي العربي يشبّه بالنظام الإقليمي العثماني, في مرحلة أفول الإمبراطورية العثمانية, ويقابل مصطلح ''رجل العالم المريض'' بـ''رجل أوروبا المريض''.
ويشي توصيف ''رجل العالم المريض'' بتداعي وانهيار النظام الإقليمي العربي, الذي تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وتبلور مع الاستقلالات العربية, وهو مقرون بمرحلة الانقسام العربي, بعد تداعي ما عرف بالمثلث ''المصري ـ السعودي ـ السوري'' وانسحاب مصر من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي, ثم انقسام الأنظمة العربية إلى ممانعة واعتدال, الأمر الذي جعلها تدخل في تحالفات مع قوى إقليمية أخرى كدول ملحقة, وسادت مرحلة ''فراغ القوة'', التي أفضت إلى ظهور إيران كقوة إقليمية جديدة دخلت مجال التنافس في المنطقة, ومن باب العداء لإسرائيل, وحديثها عن تحول قضية فلسطين إلى قضية إسلامية, ثم الدخول القوي لتركيا وتنامي دورها الإقليمي. وكان العراق المحتل المكان الظاهر والبارز لصراع وتقاسم النفوذ بين القوى الإقليمية الجديدة, حيث وقع جنوبه في دائرة النفوذ الإيراني, فيما يشهد شماله وجوداً تركياًً قوياً في الجانب الاقتصادي والعسكري, إلى جانب الوجود الأمني والاستخباراتي الإسرائيلي. وتختلف أدوار كل من إيران وتركيا وإسرائيل في المنطقة, حيث تسعى إسرائيل إلى أن تكون القوّة الإقليمية الوحيدة المُـهمينة على كامل الشرق الأوسط الكبير, بوصفه مجالا لسيطرتها العسكرية والاقتصادية, وتساعدها على ذلك مساندة ودعم الولايات المتحدة وجميع الدول الغربية, فيما تسعى إيران إلى القيام بدور الزّعامة الإسلامية في المشرق العربي والعالم, واختارت مدخل الصِّراع الإيديولوجي والأمني مع القوّة الإقليمية الإسرائيلية المُـسيطرة, كما تسعى إلى التوصّل إلى اعتراف الولايات المتحدة بدورها المحوري في المنطقة, وإلى عقد اتفاقات تضمن أمن نظامها ومجال نفوذها الجيوسياسي. أما تركيا, فقد عملت المؤسسة الحاكمة فيها على صوغ مقاربة جيوثقافية, تجعل تاريخها الإمبراطوري العثماني وميزات موقعها الجيوسياسي المحوري رصيداً إيجابياً للعب دور محوري في المنطقة, وطورت رؤية ''عثمانية جديدة'' كي تساعدها على استحضار إرث ''القوة العظمى'' العثماني, وإعادة تعريف مصالح البلاد القومية والاستراتيجية, وبما يفضي إلى ضرورة النظر إلى تركيا, بوصفها قوة إقليمية كبرى, تتحرك دبلوماسيتها النشطة في اتجاهات عدة, محورها الانخراط المتزايد في شؤون الشرق الأوسط على قاعدة التقارب مع العرب والمسلمين. ولا شك في أن منطقة الشرق الأوسط شهدت حروباً وصراعات وتوترات عديدة منذ إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين, وتفاقمت بشكل خاص في حرب عام 1967 التي أدت إلى احتلال إسرائيل أراض عربية, ثم زاد الوضع العربي سوءاً من احتلال العراق الكويت, دون أن ننسى أحداث الأعوام 1973 و 1978 و 1982, والتطورات الدموية المثيرة في الساحة اللبنانية (1975 – 1990), والحرب بين العراق وإيران (1980 – 1988), وحرب الخليج (1990 – 1991), والغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003.
غير أن تعقيد الأحداث يستلزم على الدوام عودة متكررة إلى ما وراء المرحلة, مرحلتنا الراهنة, بغية تفسير الأحداث في إطارها الحقيقي, خاصة أن تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين الماضي وصولاً إلى يومنا هذا, هو تاريخ الإخفاقات العربية المتكررة في الخروج من حالة التبعية, والعجز عن التحول العربي إلى شريك محترم في النظام العالمي, الأمر الذي يسلط أضواء جديدة على الانحطاط العربي المتواصل منذ عشرة قرون, والذي تسبب في ''فراغ القوة'' في المنطقة العربية, ولا شك في أن هذا المفهوم يحمل دلالة رمزية على غياب هوية سياسية قوية البنيان فيها. ويشهد واقع الحال على أن البلدان العربية استمرت مادة تجاذب بين القوى الخارجية والإقليمية, وخاضعة لمحاولات سيطرة خارجية تمارس على أنظمة هشة منقوصة الشرعية. وكان فراغ القوة هذا قد أتاح لفرنسا وبريطانيا أن تصادرا سيادة الولايات العربية المتحدرة من السلطنة الثمانية, وهو الذي أتاح قيام دولة إسرائيل عام 1948. وعلى الرغم من عديد من الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول المنطقة إلا أنها بقيت عاجزة عسكرياً, وجرى التعامل مع المنطقة بوصفها منطقة فراغ قوة. لكن الخطير في الأمر هو أن الفراغ العسكري يعبّر عن فراغ أكبر على مستوى التماسك الاجتماعي والثقافي, وتالياً الاجتماعي والسياسي, وعن غياب التحولات الاقتصادية والمؤسساتية. وعليه بقيت المنطقة مفقودة تماماً في ظل غياب مجتمعات متماسكة في حدودها الجغرافية وفي هويتها المعترف بها والمحترمة.
ويعكس صعود قوى إقليمية جديدة في المنطقة حجم انسداد الأفق السياسي والاجتماعي, ومستوى البهتان الملازم للنظام الإقليمي العربي منذ تأسيسه, حيث بات الإنسان العربي عموماً, لا يعوّل كثيراً على القمم العربية ومقرراتها, ولا على الجامعة العربية وتوصياتها, فهو يعلم جيداً أن الجامعة العربية ولدت مجهضة ومكبلة. وعلى الرغم من انعقاد قمم عربية عديدة, عادية واستثنائية, وتناولها ملفات مصيرية وضخمة وثقيلة, فإن ما صدر عنها من مقررات وتوصيات, على الرغم من ضحالته وضعفه لم يجد طريقه إلى حيّز التطبيق والتنفيذ. وساد اعتقاد بأن القمة العربية تمأسست, عبر تحويلها إلى حدث تشهده العواصم العربية بشكل دوري سنوي, وأن العمل العربي المشترك, ولو على المستوى التشاوري, حقق قفزة نوعية إلى الإمام, بعكس القمم غير الدورية, التي كانت تعقد حسب مقتضيات الظروف والحاجات, والتي كانت جداول أعمالها ومقرراتها مرتبطة بالظرفي والراهن إلى جانب عموميات أخرى.
وكان الأمل معقوداً على الارتقاء بمستوى العمل العربي المشترك, لكن الخيبة كانت تسبق التوقعات في كل مرّة تنعقد فيها القمة العربية, وتتأكد مع صدور مقررات كل قمة, التي تبقى مجرد حبر على ورق, فيما كانت تزداد حالات التردي والانهيار العربي, وتزداد الضغوط والتحديات, وليس هنالك أي مسعى إلى التغيير نحو الأفضل.