ثقافة المجتمع وسوء الإدارة
من السهل القفز بعد كل مشكلة وتحميل المسؤول الأعلى في المنشأة المسؤولية الكاملة، وأحياناً الانطلاق إلى استنتاجات واتهامات خطيرة وأحدها الفساد. هذا لا يعني عدم احتمالية ذلك أو عدم إمكانيته، ولكننا بهذه الطريقة نختزل المشكلة التي واجهناها في شخص واحد وكأن زواله هو الطريق إلى حل هذه المشكلات. أضرب مثالاً على ذلك، فكر في عدد المسؤولين الذين مروا على أي جهة من الجهات الحكومية التي تخطر على بالك والتي تعاني مشكلات في الخدمات التي تقدمها للمواطنين وتساءل: هل استطاعوا حل هذه المشكلات؟ إذاً هل السبب هم الأشخاص فقط الذين يتولون أمر هذه الجهات أم أن هناك عوامل أخرى قد تفسر ذلك؟
ولكي أتناول الموضوع بشكل أعمق لنفكر في المشكلات التي تواجه قطاعات الخدمات العامة في المملكة سواءً الحكومية أو شبه الحكومية: أمانات المدن، البلديات الفرعية، كتابات العدل، الشرطة، المرور، الجوازات، البريد، المستشفيات، شركات الاتصالات، الخطوط السعودية، المطارات، مكاتب العمل، وغيرها من الجهات التي تقدم خدمات عامة بجميع أشكالها وستجد أننا دائماً نشتكي من تدني جودة الخدمات أولاً وانتشار ظواهر غير أخلاقية في بعض هذه الجهات كالواسطة والتعدي على حقوق المواطن والمقيم وغيرها من المشكلات التي لا حصر لها. وأعود مرة أخرى للتساؤل هل يمكن أن نختزل كل هذه المشكلات في أشخاص القائمين عليها؟ ولو افترضنا أنه تم إقالة هؤلاء فهل يعني ذلك أننا سنحل هذه المشكلات؟
ليس الهدف من هذه التساؤلات الدفاع عن مسؤول أو غيره ولكن محاولة القيام بعملية عصف ذهني Brain Storming لي شخصياً، وحث القارئ على القيام بهذه العملية للتفكير بشكل إيجابي حول كل مشكلة تواجهنا. بلا شك قد يكون المسؤول جزءا من المشكلة في كثير من الأحيان، ولا يعني ذلك إخلاء مسؤوليته من مشكلات الجهة التي يرأسها، ولكن أيضاً هناك جذور أخرى للمشكلة تسهم في تغذيتها واستمرارها حتى بعد ذهاب هذا المسؤول إما بالإقالة أو بالتقاعد أو حتى الوفاة. إذاً يجب ألا يكون ما نبحث عنه فقط هو إلصاق التهم بالأشخاص بقدر ما هو محاولة التعرف على جذور المشكلة لحلها، وهذا لا يعني بالطبع عدم تحميل المخطئين مسؤولياتهم، ولكن البحث فقط عن المتهم لن يؤدي إلى تجاوز مشكلاتنا اليومية.
هناك سببان أعتقد أنهما يلعبان دوراً كبيراً في تفاقم هذه المشكلات في كل القطاعات التي أشرت إليها وفي قطاعات أخرى غيرها. الأول يتعلق بثقافة المجتمع، والآخر بسوء الإدارة في الدرجة الأولى التي تؤدي إلى تحفيز الجانب الأول. وهذان الجانبان قد يؤديان إلى تهيئة بيئة مناسبة لحدوث فساد بالمعنى الحقيقي، لكن حدوثهما لا يعني أن الفساد مقصود بعينه. السبب في ذلك أن الفساد حالة إجرامية لها طريق آخر للتعامل معها يختلف جذرياً عن التعامل مع المشكلات الناتجة عن ثقافة المجتمع أو عن سوء الإدارة.
ففيما يتعلق بثقافة المجتمع فإنها تحفز إلى تجاوز الأنظمة في كثير من الحالات لمساعدة قريب أو إنهاء معاملة، وبغض النظر عما سيؤدي إليه هذا التصرف من سلب لحقوق الآخرين أو تجاوز للأنظمة أو حتى تعد على الممتلكات العامة، مما يعني أن الأمر يتحول تدريجياً من عمل يقصد به مساعدة الآخرين أي لتحقيق هدف نبيل إلى جريمة بالتدريج والسبب أن ثقافة المجتمع الخاطئة تعد مساعدة الأقارب والأصدقاء والمعارف بغض النظر عن نوعية هذه المساعدة أمراً واجباً، وتجد المجتمع يعاقب الشخص الذي يحاول الالتزام بالحدود المقبولة لهذه المساعدة بنعته بصفات سيئة جداً قد تؤدي إلى عزله من هذا المجتمع.
الجانب الآخر هو المتعلق بسوء الإدارة وهو أمر أكثر تعقيداً وهو متجذر في كل دائرة حكومية أو قطاع خدمات عامة وهو السبب الرئيس الذي يؤدي إلى تكرار حدوث المشكلات مرة بعد أخرى. وهذا ناتج عن عدة عوامل أحدها أيضاً ثقافة المجتمع، حيث نعطي المخطئ فرصة بعد أخرى بدافع الرفق والتسامح معه مما يمثل فهماً خاطئاً حتى في أبسط المفاهيم الدينية في التعامل، إذ إن الرفق والتسامح لا يجب أن يكونا على حساب مصالح العامة. عوامل أخرى تسهم في ذلك مثل عدم وجود الرقابة الإدارية من خلال مقاييس ومؤشرات الأداء، والأمان الوظيفي غير المبرر في الوظيفة الحكومية وحتى الخاصة، وعدم تأثير الأخطاء في المستقبل الوظيفي، وانخفاض مستوى التأهيل على جميع المستويات الإدارية.
هذه عوامل بجانب عوامل أخرى متجذرة في أنظمتنا الحكومية، ودعني أضرب مثالا واحدا ليعطيك فكرة عن المستقبل المظلم للخدمات العامة لدينا: إذا استمرت سياسة التوظيف في القطاعات الحكومية كما هي وإذا استمرت ثقافة الأمان الاجتماعي في الوظيفة الحكومية فإنه سواءً على المستوى القريب أو المتوسط فلن يكون هناك إلا طريق واحد لمستقبل الخدمات العامة، وهو التراجع بكل المقاييس, لذلك، يجب أن نفكر في كيفية جذب أفضل الكفاءات للقطاعات الحكومية وتغيير بيئة العمل فيها إلى بيئة لا مكان فيها إلا للمنتج، وعندها يمكن بسهولة تحسين مستوى الخدمات العامة وتحميل كل شخص نتيجة أخطائه.