«جولدمان»: الطمع على مدى الزمن
التجربة تتكرر مرة بعد أخرى، مما يدل على أن الطمع غريزة إنسانية قبيحة تجب محاربتها بشتى الطرق والوسائل. الحدث المسيطر على الساحة هذه الأيام هو القضية التي رفعتها هيئة الأسواق المالية الأمريكية على البنك الاستثماري العريق جولدمان ساكس. وبالمصادفة وأنا أحاول أن أجمع شتات هذا الموضوع من مختلف المصادر. إذا في برنامج تعرضه قناة سي إن بي سي الأمريكية يحكي بالتفصيل قصة انهيار إنرون. وما يجمع بين الأمرين عوامل مشتركة كثيرة منها الطمع والبحث عن المكافآت الكبيرة للمديرين التنفيذيين، وهذا يحصل في ظل ضعف كبير في التشريعات المالية. لكن الاختلاف أيضاً واضح من حيث بلوغ حد الجريمة بالتلاعب في تدفق الطاقة الكهربائية لرفع أسعار إنرون من قبل مديريها التنفيذيين لكي يحصدوا لأنفسهم مكافآت كبيرة جداً في ظل تحقيق الشركة لخسائر كبيرة استطاعوا بطرق ذكية إخفاءها فترة من الزمن.
لكن عودة إلى الحدث المسيطر على الساحة الآن وهو قضية جولدمان ساكس الذي تأسس في عام 1869م في مانهاتن في مدينة نيويورك الأمريكية، ومنذ ذلك الحين أصبح أحد أكثر البنوك الاستثمارية ريادة في مجال الخدمات الاستثمارية كالتعهدات وترتيبات الديون وإدارة الأصول وتقديم المشورة المالية. وقد خرج جولدمان ساكس عدداً من الأشخاص الذين تولوا مناصب حكومية متميزة آخرهم هنري بولسون وزير الخزانة الأمريكي في نهاية عهد الرئيس جورج بوش ومهندس حزمة التحفيز المالي الأولى للبنوك إبان انطلاق شرارة الأزمة المالية، وروبين توبين وزير الخزانة في عهد الرئيس كلينتون. الأزمة القانونية التي يشهدها جولدمان ساكس الآن تتمثل في عملية تسويق منتجات مالية مدعومة بسندات الرهن العقاري ثم المراهنة على نزول سعرها، مما يمثل تناقضاً كبيراً بين إقناع المستثمرين بشراء هذه المنتجات ومن ثم المراهنة على فشلها وانخفاض سعرها.
والقضية تعد أسوأ قضية يواجهها جولدمان ساكس في تاريخه، حيث إنها تضع سمعته التي بناها على مدى عقود من الزمن على المحك. إذ سيؤدي ذلك - إذا ما ثبتت صحته - إلى تردد الكثير من المستثمرين في العمل مع جولدمان ساكس في المستقبل خصوصاً في ظل استمرار الإدارة الحالية له التي كان لها دور في هذه القضية. النتيجة المالية المباشرة على جولدمان ساكس هي تراجع القيمة السوقية لأسهمه بما قيمته 12 مليار دولار أمريكي وهو يعكس التخوف الكبير من التأثيرات المستقبلية لهذه المشكلة على مستقبل البنك. البنك وإدارته في المقابل لم يقفا مكتوفي الأيدي ودافعا عن موقفهما بقولهما (إننا لم نصمم محفظة لتخسر)، مشيرين في ذلك إلى الاتهامات بعلمهما بقيام أحد الأطراف التي أسهمت في تصميم المحفظة بالمراهنة على نزول سعر المحفظة ببيعها بالأجل Short Selling، والذي يعني أن تسليم الأصل يتم في وقت مستقبلي بشراء كمية الأسهم نفسها أو السندات من السوق في المستقبل وتسليمها للمشتري. أي أن هناك طرفين في العملية المشتري الذي يراهن على ارتفاع السعر والبائع الذي يراهن على انخفاضه.
ولنحاول الآن فهم هذه العملية المعقدة نوعاً ما. هناك ثلاثة أطراف في القضية: الأول صندوق التحوط المملوك لجون بولسون والذي حقق أرباحاً طائلة تقدر بـ 15 مليار دولار بالمراهنة على انهيار سندات الرهن العقاري، الثاني بنك جولدمان ساكس، وهو من قام بتصميم المحفظة لصالح بولسون وبمشاركة منه في اختيار ما يدخل في قيمتها وقاموا بتسويقها للمستثمرين وحصلوا على 15 مليون دولار كرسوم مقابل ذلك، الثالث المستثمرون الذين قاموا بشراء هذه المحفظة. المشكلة أن جولدمان ساكس لم يوضح للمستثمرين أن بولسون أحد أطراف العملية وإلا لما استطاعوا تسويقها، لأن المستثمرين يعلمون دائماً أن بولسون يراهن على انخفاض أسعار سندات الرهن العقاري، كما أنهم لم يوضحوا أنه شارك في اختيار مكونات المحفظة نفسها. وبحكم أن بولسون لم يسهم في التسويق فليس هناك أي قضية ضده، لكن القضية الآن تتركز على جولدمان الذي قام بالتصميم والتسويق للمحفظة وإعطاء معلومات مضللة للمستثمرين عنها مما كبدهم خسائر كبيرة جداً. جولدمان ساكس يدافع عن موقفه بأنه أيضاً خسر أكثر من 90 مليون دولار من استثماراته في هذه المحفظة وهو ما يتجاوز الرسوم التي تقاضاها من بولسون لتسويقها وهو ما يدعي أنه يبين سلامة نيته تجاه المستثمرين.
القضية سلسلة من القضايا المالية المتشابهة في جميع سيناريوهاتها. فهي تتضمن شخص أو أشخاص يملكون جرأة ورغبة في الإثراء السريع بالاستفادة من الثغرات التي تعج بها الأنظمة المالية. فهم في إنرون بشر مثلهم مثل الأشخاص الذين يعملون في جولدمان ساكس يدفهم الطموح ويبلغ بهم الجشع حد التضحية بغيرهم في سبيل الوصول إلى مبتغاهم. هذه في الواقع فلسفة الرئيس التنفيذي لـ ''إنرون جيف سكيلينق'' الذي يفضل كتاب ''الجين الأناني'' وهي الفلسفة التي يتعلمها كل مبتدئ في جولدمان ساكس ''ثقافة جولدمان ساكس''، حيث يشير إليها روبين فارزاد في مجلة ''البزنس ويك'': خفض الرأس والاستماع للرئيس، عدم نشر أي شيء باسمك في أي صحيفة، زي متحفظ وربطة عنق جيدة. بل إنه يشير إلى أن أحد الشركاء أشار لهم إلى أن جولدمان نفسه أقسم على الطمع على مدى الزمن long time greedy .