رماد بركان آيسلندا بين الواقع والتهويل!

عصفت أزمة بركان آيسلندا باقتصاديات الطيران في العالم كما لم تعصف به أي أزمة من قبل!.., حتى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الشهيرة, لم تؤثر في شبكات الطيران وشركاته مثلما أثرت فيها هذه الأزمة, ومع أن البركان الذي ثار أخيرا لم يكن الوحيد الذي انفجر, إلا أنه بدا وكأنه موجه للملاحة الجوية ليعطلها، ويشل شرايينها في المحيط الأوروبي بكامله, وما يتجه إليه من أنحاء العالم كافة, ولعل أكثر المتأثرين من ذلك هم ملايين المسافرين الذين تقطعت بهم السبل، وعلقوا في المحطات الجوية التي قضوا فيها بضعة أيام وقوفا أو نياما على الأرض العارية, وخسروا جراء ذلك أكثر مما ادعت خسارته شركات الطيران, ولو قدر وحسبت فرص الكسب الضائعة المادية والمعنوية على ملايين المسافرين لفاقت بأضعاف الخسائر الفعلية لشركات الطيران!.., لكن دعونا نتأمل الأمر كله لنستخلص أهم العبر والدروس المستقاة على المستويات الإنسانية والاقتصادية:
1 ـ أولى الوقفات هي أن ما يصيب جزءا من العالم من كوارث طبيعية لا يقتصر آثارها على ذلك الجزء, بل يمتد إلى أجزاء أخرى كثيرة من العالم, فها هو هذا البلد الكبير رقعة والصغير كيانا وتأثيرا وسكانا (آيسلندا) يحدث من التأثير والتخويف بسبب الكارثة ما لم يحدثه بلد آخر, فطبيعة هذا البلد الجغرافية الغريبة التي تمثل قارة صغيرة تغطيها الثلوج, ولا يوجد فيه من السكان ما يعادل سكان مدينة واحدة في أي بلد آخر, يعيش سكانه على الشواطئ, بل إن سكانه في تناقص بسبب صعوبة العيش, وقساوة الطقس وسطوة البراكين التي لا يزال بعضها نشطا, إضافة إلى افتقاره إلى الموارد الطبيعية, كل هذا يجعله بلدا غريبا متفردا عن غيره, وأهم السمات التي تميز آيسلندا هي الثلوج التي تغطي أكثر من 75 في المائة من مساحتها, كي تغطي الحرات البركانية الجزء المتبقي, كما تمتاز بوجود الينابيع المعدنية الحارة التي تنبثق من قلب الثلوج أو تفور من وسط مياه البحار المحيطة, أما أهم الموارد فهي صيد وصناعة الأسماك التي تشتغل بها نسبة كبيرة من السكان, وأهمها أسماك السلمون التي تعمر بها معظم موائد الأثرياء حول العالم.
2 ـ إن أكثر الخاسرين من الأزمة هم البشر، وليس شركات الطيران ذاتها, فهم الذين تعرضوا للتعطيل والضرر المادي والمعنوي, ومن ذلك ما خسروه من أموال لإسكان أنفسهم وعائلاتهم بعد أن رفض معظم الشركات إيواء مسافريها تحت مبرر أن الأزمة حدثت من ظروف قاهرة, ومنهم من تحمل أجور تحويل رحلاتهم عن طريق بلدان أخرى لم يصلها رماد البركان, والدوران حول أوروبا للوصول إلى بلدانهم, وهذه بطبيعة الحال نفقات تنصلت منها شركات الطيران، لأنها تمت باختيار المسافرين أنفسهم, كما أن منهم من تحمل نفقات العلاج من بعض الأمراض التي أصيبوا بها نتيجة بقائهم في ظروف مناخية وصحية صعبة ينامون على المقاعد أو على الأرض عدة أيام, يضاف إلى ذلك فقدان الصفقات ذات العوائد المادية, وخسارة الرواتب نتيجة الغياب عن العمل, وإجمالا فإنه لو جرى حساب خسائر البشر المادية فقط لبلغت أضعاف ما تدعيه شركات الطيران من خسارة.
3 ـ تأتي في الترتيب التالي من حيث الخسارة المادية شركات السياحة والمرافق السياحية من فنادق ومنتجعات, وأماكن إيواء أخرى, فكم من هذه المرافق بقي خاويا نتيجة تعطل وصول الوفود السياحية في مواعيدها بسبب الأزمة, ولا تقف الخسائر السياحية على ما سببته الأزمة مباشرة بل يمتد ذلك إلى الارتباك الذي حصل في برامجها السياحية, والصعوبة التي ستواجهها لإعادة بناء الثقة, إضافة إلى ما تعرضت له من إقامة دعاوى التعويض من قبل الفنادق بسبب عدم وفائها بالتزاماتها في توفير الوفود السياحية التي التزمت بها, أما الخسارة على مستوى الدول السياحية نتيجة تراجع السياحة فيها بسبب الأزمة فهي أكبر من أن تحصى.
4 ـ أما شركات الطيران فقد تكون خسائرها هي الأقل من بين الشركاء في الأزمة, بل إنها تكون قد حققت بعض الفوائد نتيجة ملايين التذاكر التي باعتها وحصلت قيمتها ولم يستخدمها الركاب أو قاموا بشراء تذاكر بديلة لتحويل رحلاتهم إلى وجهات أخرى أكثر أمنا للوصول إلى غاياتهم, وكذلك تجنبها لكثير من الخسائر نتيجة عدم قدرة المسافرين الأفراد على إقامة دعاوى على الشركات للمطالبة بحقوقهم وتعويضهم عن الخسائر التي تعرضوا لها, بسبب عدم وجود منظمات أو جمعيات حقوقية تتبنى المطالبة بحقوق المسافرين الأفراد, بعكس الشركات فهي منضوية تحت مظلة منظمات وهيئات محلية ودولية تحمي حقوقها وتدافع عنها تجاه أي مطالبات قد تتعرض لها, ومع ذلك فهي قد تضررت بسبب الأزمة لكنها ربما تعوض خسائرها في صورة تعديل في أسعار النقل والخدمات المتصلة بها مثلما تفعل في كل مناسبة.
5 ـ لكن الأهم من ذلك كله هو حالات التخويف والتهويل والفزع التي صاحبت حصول الأزمة, والخوف من انتشار رماد البركان إلى أجزاء كثيرة من العالم, وهو ما لم يحصل, صحيح أن عامل الأمان والسلامة مقدم على غيره من العوامل, ولا سيما في مجال الطيران, لأن حوادث الطيران في الغالب تكون قاتلة وخسائرها فادحة, بيد أنه لم يحصل أي حادث بسبب الرماد رغم أن ما لا يقل عن ثلث الرحلات في القارة الأوروبية ذاتها كان يسير طبيعيا!..ولعل الأمر الذي أسهم كثيرا في رفع درجة التهويل هو أن مثل هذه الأزمة تحصل لأول مرة ولم يسبق لأي جزء من العالم أن تعرض لمثلها أو حتى شبيه لها, فضلا عن أن الدول التي وصلها الرماد لم تكن مستعدة بما يلزم من أجهزة رصد وتحليل وتجارب لمواجهة مثل هذه الأزمة, ومن ثم كان إيقاف الرحلات وبث روح الخوف هو الحل الذي لجأت إليه الشركات, لكن عندما تبين لها أن الخسائر ستزداد بينما لا يزال الرماد عالقا في الجوف أعلنت المنظمات وشركات الطيران استئناف الرحلات جميعها دون تحفظ, ومع ذلك لم يذكر أنه حصلت حادثة واحدة بعد ذلك!.. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي