رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


توازن اللا توازن

أفرزت الأزمة المالية العالمية عديدا من الأفكار والأطروحات في مجال السياسة الاقتصادية لم تكن مطروحة من قبل، أو على الأقل لم تكن مطروحة بشكل قوي على الساحة الاقتصادية الدولية. هذه الأطروحات والنقاشات التي تتبعها سيكون لها أثر كبير في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي ومن ثم إعادة موازنة القوى الاقتصادية العالمية. ومن هذه الأطروحات ما يتعلق بإعادة موازنة النمو الاقتصادي العالمي بين الدول التي تحقق عجوزات متواصلة في ميزان الحساب الجاري والدول التي تحقق فوائض متواصلة. بالطبع هذا الموضوع كان مطروحاً قبل الأزمة, خصوصاً في ظل التجاذبات السياسية الحادة بين الولايات المتحدة والصين, التي تفاقمت مع بداية الأزمة المالية العالمية.
الولايات المتحدة تتهم الصين بالتحكم في سعر صرف العملة الصينية اليوان لإبقائه منخفضاً بشكل مقصود ومن ثم زيادة تنافسية الصادرات الصينية في الأسواق العالمية، وهذا بالطبع يؤدي إلى مفاقمة العجز التجاري لشركائها التجاريين, خصوصاً الشريك التجاري الرئيس الولايات المتحدة. الاتهام الموجه للصين من الولايات المتحدة يتمثل في أن اليوان لو ترك حراً لارتفع سعر صرفه ليعكس القيمة الحقيقية له بناءً على قوى السوق الحرة. لكن قيام الصين بالتحكم في سعر صرف اليوان يؤدي إلى منافسة غير عادلة وغير نابعة من اقتصاد السوق, وبالتالي تؤدي إلى منافسة غير عادلة في التجارة الدولية، حيث تكون السلع الصينية مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية بالعملات الأجنبية.
بالطبع هذا الأمر يثير حفيظة الولايات المتحدة التي تدين للصين بمبالغ كبيرة تقارب تريليوني دولار، كما أن هذا الأمر ازداد حدة بالنظر إلى الخيارات المحدودة لدى الولايات المتحدة للخروج من الأزمة المالية المتمثلة في زيادة الطلب الخارجي على منتجاتها لضمان زيادة إنتاجية المصانع والتوظف ومن ثم زيادة الإنفاق الاستهلاكي الذي يعد المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي الأمريكي. لكن للصينيين مرافعة في هذا الشأن أمام خصمهم الاقتصادي الرئيس تتمثل في أن ذلك يعكس الميزات النسبية للاقتصاد الصيني, كما أنهم يعملون على تحرير سعر الصرف, لكن بشكل تدريجي بحيث لا يؤدي ذلك إلى صدمة لاقتصاد يتقدم بشكل سريع لينافس الولايات المتحدة على مرتبة الاقتصاد الأكبر في العالم.
والتعنت الصيني له جذور تاريخية تبرره ترجع إلى صراع مماثل حدث بين اليابان والولايات المتحدة في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الميلادي الماضي عندما غزت السيارات اليابانية وبشكل كبير الولايات المتحدة. وأدت استجابة اليابان للضغوط الأمريكية ـ إضافة إلى عوامل أخرى – إلى عقد من النمو الضائع في اليابان، ومشكلات اقتصادية متتالية. وهذا الأمر يؤرق الصينيين بشكل كبير خصوصاً في التشابه في الوضع الديموغرافي في كل من الصين واليابان. فكلا البلدين يتميزان بارتفاع متوسط أعمار السكان ونسبة نمو سكاني منخفضة, وهذا يؤثر بشكل كبير في تكاليف الإنفاق العام, خصوصاً في مجال التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية، كما أنه يهدد بانخفاض الإنتاجية بشكل كبير بسبب تناقص أعداد الداخلين إلى سوق العمل عاماً بعد عام. وعلى الرغم من أن أغلبية الاقتصاديين متفقون على أهمية أن يكون التوازن أو اللاتوازن في موازين التجارة وموازين الحساب الجاري بين الدول نابعاً من حرية الأسواق وعدم التحكم في أسعار الصرف بطريقة ترجح كفة التوازن لطرف على حساب الطرف الآخر، إلا أنني أعتقد أن جوانب أخرى تتعلق بالاقتصاد الحقيقي والسياسة الاقتصادية للدولة تحفز هذا اللاتوازن وتفاقمه, وبالتالي يجب ألا توضع اللائمة فقط على دول الفائض كالصين لكن على دول العجز بعد قيامها بما يجب للحد من هذه العجوزات في موازين الحساب الجاري.
على سبيل المثال لا الحصر، الحد من الميل الحدي للإنفاق الاستهلاكي (المبذر) الذي يتميز به المستهلك الأمريكي من خلال الحد من أدوات التمويل التي تشجع عليه. حيث يستخدم كثير من الأمريكيين الائتمان المصرفي بجميع أوجهه للإنفاق على سلع غير ضرورية, وهذا ما يجعل معدلات الادخار في الولايات المتحدة منخفضة مقارنة بدول أخرى. بالطبع السياسة الاقتصادية الأمريكية بشكل عام تشجع على ذلك لأنه يمثل أحد مصادر النمو الاقتصادي الأمريكي مثله في ذلك مثل الطلب الخارجي (الصادرات) الذي يمثل مصدراً رئيساً من مصادر النمو الاقتصادي الصيني.
وهذا ينقلنا إلى نقطة رئيسة تتمثل في مسألة الاختيار بين أنماط الاستهلاك، ففي حين اختار الأمريكيون نمطاً استهلاكياً مبذراً باعتمادهم على الائتمان وليس على إنتاجيتهم لتلبية حاجاتهم المختلفة، فإن للمستهلكين في الدول الأخرى الحق في اختيار نمط الاستهلاك الخاص بهم ما دام ذلك نابعا من سياسة اقتصادية قائمة على قوى السوق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي