البنوك الأمريكية العملاقة ومسلسل الإفلاس
إن الاقتصاد العالمي يواجه مشكلة خطيرة: فما زالت أكبر البنوك في الولايات المتحدة ''أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس''، وهذا يعني أن الحكومة ستسارع إلى الإنقاذ إذا تعرض واحد من هذه البنوك أو أكثر لمتاعب خطيرة ـ وذلك لأن عواقب التقاعس عن الإنقاذ مخيفة إلى حد لا يمكن تصوره.
إن هذه المشكلة معترف بها على نطاق واسع، ليس فقط من جانب المسؤولين، بل وأيضاً من جانب المصرفيين أنفسهم. في الواقع، هناك شبه إجماع على أن علاج هذه المشكلة يشكل أولوية سياسية عليا. حتى إن جيمي ديمون، الرئيس القوي للبنك البالغ الضخامة جيه بي مورجان تشيس، أكد أن ظاهرة ''أضخم من أن يُسمَح له بالإفلاس'' لا بد أن تنتهي.
ولكن من المؤسف أن التناول الذي اقترحته إدارة أوباما لعلاج هذه المشكلة ـ والذي تبناه الكونجرس الأمريكي الآن ـ لن ينجح.
إن الاهتمام التشريعي ينصب في الوقت الحالي على مشروع قانون الإصلاح المالي الذي تقدم به السناتور كريستوفر دود، الذي مر عبر اللجنة المصرفية التابعة لمجلس الشيوخ ومن المفترض أن يطرح للمناقشة قريباً في مجلس الشيوخ. ويدور مشروع قانون دود حول إنشاء ''سلطة قرار''، أو بعبارة أخرى هيئة حكومية تتمتع بالسلطة القانونية اللازمة للاستحواذ على المؤسسات المالية الفاشلة وإغلاقها.
ويزعم مؤيدو مشروع القانون أن هذا التناول يبنى على نجاح المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، والتي تتمتع بسجل طويل من إغلاق البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم في الولايات المتحدة بأقل قدر من التعطيل ومن دون تحمل المودعين أي خسائر. وفي هذا السياق فإن ''القرار'' يعني فصل مديري البنوك، والقضاء على حاملي الأسهم، وتعرض الدائنين غير المؤمَّنين للخسائر. وهذا في الأساس نوع من الإفلاس، ولكنه يتسم بقدر أعظم من الحذر الإداري (وتوفير مزيد من الحماية للمودعين كما هو مفترض) مقارنة بما هو ممكن في ظل عملية تتم تحت إشراف المحكمة.
إن تطبيق هذه العملية على البنوك الضخمة والمؤسسات المالية التي لا تعتبر بنوكاً رسمية ـ وتلك التي لا تملك ودائع تجزئة مؤمَّنة ـ يبدو على ما يرام على الورق. ولكن هذا التناول يحمل في طياته صعوبة لا يمكن التغلب عليها في الممارسة العملية.
ولنتأمل هنا اللحظة الحاسمة لاتخاذ القرار ـ حين يصبح بنك عملاق مثل جيه بي مورجان تشيس (الذي تبلغ ميزانيته تريليوني دولار) على وشك الإفلاس. ولنفترض أنك أحد كبار صناع القرار ـ ربما وزير المالية أو مستشار رئيس لرئيس الولايات المتحدة ـ فهذا هو المستوى اللازم لاتخاذ القرار في شأن كهذا.
ولنفترض أنك تتمتع بسلطة القرار التي يمنحك إياها قانون السناتور دود، وأنك دخلت إلى الاجتماع الحاسم عاقداً العزم على إنقاذ البنك المتعثر ـ أو على أسوأ تقدير إنقاذه مع اقتطاع قسم كبير (وهذا يعني خسائر) من أموال الدائنين غير المؤمَّنين. ثم ذكَّرك شخص ما أن جيه بي مورجان تشيس يشكل مؤسسة مالية عالمية معقدة.
إن سلطة القرار بموجب مشروع قانون دود لا تسمح لحكومة الولايات المتحدة إلا بتحديد شروط الاستحواذ الرسمي داخل الولايات المتحدة. وفي العشرات من البلدان الأخرى، حيث يتولى جيه بي مورجان تشغيل المؤسسات التابعة، أو الفروع، أو غير ذلك من أنواع الأعمال التجارية، فإن الإفلاس سيكون تقليدياً ـ في حين قد تبتكر بعض الحكومات ترتيبات مختلفة بما يتفق مع الظروف.
إن النتائج المترتبة على هذه التركيبة من الاستجابات غير المنسقة ستكون واسعة الانتشار، ومخيفة، وتقترب من الفوضى. وهذا هو ما حدث على وجه التحديد حين أفلست شركة ليمان براذرز في أيلول (سبتمبر) 2008، وما حدث حين استحوذت حكومة الولايات المتحدة على المجموعة الأمريكية الدولية AIG بعد يومين.
إن وجود سلطة القرار في الولايات المتحدة لا يساعد على احتواء الأضرار أو الحد من الذعر الناجم عن وقوع بنك عالمي ضخم في المتاعب. ولكن من الممكن أن يتم التعامل مع فشل بنك كهذا على نحو أكثر تنظيماً بالاستعانة بسلطة قرار عابرة للحدود. ولكن مثل هذه الآلية لا وجود لها، وليس من المحتمل أن يتم تأسيس سلطة كهذه في المستقبل القريب. والواقع أن المشرعين المسؤولين في بلدان مجموعة العشرين الأخرى كانوا في غاية الوضوح في التعامل مع هذه النقطة: لن يوافق أحد مسبقاً على طريقة معينة في التعامل مع فشل أي بنك عالمي.
في حالة فشل جيه بي مورجان تشيس ـ أو أي من أضخم ستة بنوك في أمريكا ـ فإن الاختيار سيكون مماثلاُ لما حدث في أيلول (سبتمبر) 2008: هل ننقذ البنك أم نتركه للإفلاس فنجازف بانتشار الفوضى في الأسواق واحتمالات تكرار أزمة الكساد الأعظم؟
تُرى ما القرار الذي قد يتخذه الرئيس؟ ربما يكون الرئيس قد وعد، ولعله فعل ذلك علناً، بأن الدائنين سيتعرضون للخسائر، ولكن ذلك لن يحدث إلا عند حافة الهاوية. وإن كنت أنت المستشار المبتلى فبماذا تنصح الرئيس؟ هل تنصحه بالقفز إلى الهاوية، ليدفع بذلك الملايين من الناس ـ وظائفهم وبيوتهم وأسرهم ـ إلى الهاوية؟ أم هل تتراجع وتبحث عن طريقة بارعة لإنقاذ البنك وحماية دائنيه بالاستعانة بالأموال العامة أو بنك الاحتياطي الفيدرالي أو بأي سلطة طوارئ أخرى؟
ستتراجع على الأرجح. فحين يجد الجد سيكون إنقاذ البنك العملاق أقل ترويعاً من السماح له بالإفلاس.
لا شك أن أسواق الائتمان تدرك هذه الحقيقة، لذا فإنها ستستمر في إقراض جيه بي مورجان وغيره من البنوك العملاق مفضلة إياها على البنوك الأصغر التي يمكن السماح لها بالإفلاس. وهذا من شأنه أن يمكن البنوك الأكبر حجماً من تضخيم أحجامها. وكلما ازدادت أحجامها ضخامة، أصبح دائنوها أكثر أماناً ـ هل أدركت إلى أين قد يقودنا هذا؟
إن مشروع القانون الذي تقدم به السناتور دود لن ينجح في إنهاء ظاهرة ''أضخم من أن يُسمَح له بالإفلاس''. وكما تستطيع أن تستنتج من عنوان كتابي الأخير ''13 مصرفيا: الاستحواذ على وال ستريت والانهيار المالي المقبل'' (بالاشتراك مع جيمس كواك)، فإن العواقب العالمية ستكون وخيمة.