فتح الملفات
لقد أوضحت الأزمة الاقتصادية الحالية أهمية السياسة المالية في الخليج. فسنوات من الموازنة الحكيمة، ودفع ديون القطاع العام وتراكم الاحتياطيات الكبرى، قد أعطت الخليج وسائل لمواجهة إحدى أعنف الدورات الاقتصادية في تاريخ الاقتصاد الحديث. علاوة على ذلك، فصناعة السياسة المبنية على قواعد قد مكنت الحكومات الإقليمية من الاستمرار في مشاريعها المهمة المتنوعة بأقل نسبة من الاضطرابات. ومع سجلها الحافل وفقاً للمعايير الدولية، فقد أوضحت الأزمة أيضا عدداً من التحديات في مجال السياسة المالية. وفي بيئة انعدام التوازن الاقتصادي، تتطلب الأسواق مزيداً من المعلومات حول الالتزامات المحتملة، مثل الضمانات الحكومية الضمنية، إلى جانب قدرة الحكومات على ضمان اختيارات سياسية مستدامة للمستقبل. في حين أن هذه الضغوطات تبشر بالخير بالنسبة للشفافية المالية في الخليج، إلا أنها تبني أيضا تقليدا راسخا لاستراتيجية صناعة المال.
ما الشفافية المالية؟ يعرف صندوق النقد الدولي الشفافية المالية أنها «الوضوح للعامة حول النشاطات المالية الحكومية في الماضي والحاضر والمستقبل، وحول هيكلة ووظائف الحكومة، التي تحدد السياسات المالية ونتائجها». وقد سعى صندوق النقد الدولي والمنظمات الدولية الأخرى لسنوات من أجل إقناع الأعضاء بزيادة حجم المعلومات المتوافرة حول الأموال الحكومية. فمعايير أفضل الممارسات في هذا الصدد تعد الآن شاملة تماماً. و المتوقع من الحكومات أن توفر بيانات شاملة حول أصولها وضماناتها إلى جانب نفقاتها الحالية والمستقبلية. وغطت التوصيات مجالات مثل: المخاطر، الالتزامات المحتملة، الاستقرار المالي المستدام، إجراءات التدقيق. ومن خلال تقييمه للدول، أحرز صندوق النقد الدولي تقدماً ملموساً في هذه المجالات في عدد كبير من الدول.
تحقق الشفافية المالية فوائد مهمة: فالمساءلة المتزايدة تساعد على تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي والنمو المستدام. لكنها تخلق جوا تتمكن معه شركات القطاع الخاص من معرفة الدور الذي تنوي الحكومة أن تلعبه في الاقتصاد. ولدى خيارات السياسة المالية بطبيعة الحال ضمنيات مهمة لبيئة تشغيل الأعمال من ناحية: معدلات الفائدة، والضرائب، وتوقيت المشاريع الضخمة في القطاع العام، وما إلى ذلك. بشكل عام، تميل الشفافية المالية إلى التوافق جنبا إلى جنب مع التكنوقراطية، وصناعة القرار على أساس اللوائح والقوانين، وهو مجال أحرزت فيه دول الخليج تقدماً ملحوظاً في السنوات الأخيرة.
لقد اكتسبت الشفافية المالية أهمية كبيرة في الخليج خلال الأزمة الحالية. فعندما واجهت فيها السياسة المالية تحديات مضاعفة بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط (الذي لا يزال يمثل الجزء الأكبر من الدخل الحكومي) والزيادة في مصروفات التقلبات الدورية، قدمت الاستدامة نفسها كمسألة ذات أهمية متزايدة. علاوة على ذلك، فالتمييز بين الحكومة والقطاع الخاص لم يكن دائماً واضحاً، فاستعداد الحكومة وقدرتها على دعم المؤسسات المتضررة قد تم اختبارهما خلال الأزمة، وخصوصاً في الحالات التي تتطلب ضمانات ضمنية.
دبي تمسك بزمام المبادرة: كانت دبي من نواح عديدة نقطة إقليمية محورية للأزمة. فخططها التنموية الطموحة اعتمدت على مستويات عالية من الدعم، وعلى شريحة كبيرة من المنظمات شبه الحكومية والكيانات التي تحمل على عاتقها أسس تطوير الاستراتيجيات. وربما ليس مستغرباً، أن تمسك حكومة دبي بزمام المبادرة في مجال الإدارة المالية والشفافية. وقد أعلنت دبي هذا الأسبوع تكوين فريق متخصص مهمته رسم الخطط المالية للفترة من 2011م وحتى العام 2014م. وسيعمل هذا الفريق تحت الإدارة المالية في دبي بينما يجمع ممثلين لعدد من الإدارات المهمة في الدولة. وستسعى هذه المجموعة إلى تحسين كفاءة النفقات الحكومية، الرأسمالية والتشغيلية، إلى جانب تحديد مصادر جديدة للإيرادات. لقد طرحت هذه القضية نفسها بقوة وذلك بعد التزام الحكومة بدفع 9.5 مليار دولار لإعادة رسملة مجموعة دبي العالمية المرتبطة بالحكومة، بما فيها النخيل. و3.8 مليار دولار من هذا المبلغ سيتم تمويلها من مصادر حكومية داخلية غير مخصصة. علاوة على ذلك، فغالبية قلق السوق لا يزال مرتبطاً بديون دبي المقدرة بـ 109 مليارات دولار. وبالتالي فمزيد من المعلومات سيكون أساسياً لطمأنة المستثمرين.
التاريخ الطويل للشفافية المالية في الخليج: على الرغم من المبادرات الأخيرة، فإن الشفافية المالية في الخليج ليست حديثة. وقد انخرطت الحكومة السعودية في التخطيط الاقتصادي متوسط المدى منذ عام 1970م. إن الخطط الخمسية الشاملة وفرت الإطار الاستراتيجي الواسع للميزانية السنوية، وحددت الأولويات الأساسية للسياسة، حتى مع أن تنفيذها الأساسي كان معقداً بسبب التذبذب الاقتصادي الشديد المرتبط بالنفط.
وقد تبنت اقتصادات إقليمية أخرى نماذج مشابهة بتحول كبير تجاه خطط تنموية طويلة المدى تسعى إلى تقديم خريطة طريق ذات مصداقية للإصلاحات الهيكلية التي تم تصميمها للتقليل من الاعتماد على النفط. والأمثلة الأخيرة تتضمن رؤية أبوظبي الاقتصادية لعام 2030 أو رؤية البحرين لعام 2030. في المقابل فالوثائق الأوسع عادة ما يتم تقسيمها إلى أهداف متوسطة المدى، مثل الخطة الخمسية لأبوظبي. وقد كشفت الكويت أخيراً عن استراتيجية مدتها أربع سنوات تسعى للتأكيد على التزام الحكومة بالمحفزات المالية والتخطيط الاستراتيجي بعد فترة غير اعتيادية من الاضطراب الاقتصادي والسياسي.
لكن الاعتماد الكبير على النفط وتزايد أهمية التنويع الاقتصادي في الخليج، يخلق بيئة صعبة للسياسة المالية.
الالتزامات الاحتمالية: تتطلب الكفاءة الاقتصادية تقييماً مناسباً للمخاطر. وعلى هذا المعنى، فالوضوح في المسؤوليات الحكومية مقابل الشركات يعد أمراً ضرورياً. فوكالات تقييم الائتمان تضغط بشدة على الحكومات الإقليمية لتوضيح دور الضمانات الضمنية من أجل فهم أفضل لضخامة الالتزامات المالية المحتملة، ولضمان كون الشروط الائتمانية تعكس المخاطر بشكل مناسب. ومع أن الالتزام من جانب حكومات دول الخليج لدعم البنوك الإقليمية كان مثيراً للإعجاب، من الواضح أنه لا بد أن يكون مصحوباً بأنظمة محافظة تقلل من احتمالية المخاطر النظامية.
استقرار مالي مستدام: مع احتمال تعرض أسواق النفط لتحديات هيكلية كبرى على صعيدي العرض والطلب، وذلك قبل الاستفادة من الاحتياطيات المعروفة، فمن المحتمل أنه خلال أقل من 80 عاماً، ستقدم كل من الكفاءة الحكومية والاستقرار المالي المستدام نفسيهما كعاملين حاسمين في هذا المجال. والتخطيط الحذر سيكون له دور بالغ الأهمية في جذب رؤوس أموال القطاع الخاص لعدد كبير من المشاريع الاستثمارية بعيدة المدى. وستكون هناك حاجة إلى فائض الحساب الجاري، وذلك لتراكم الأصول لمستقبل ما بعد النفط، مع أن النمو السريع لاستهلاك النفط المحلي أصبح معضلة كبرى. وقد توقعت وكالة الطاقة الدولية أن تكون السعودية مسؤولة عن 11.7 في المائة من الطلب الجديد على النفط لهذا العام، وتتغلب عليها الصين 26 في المائة فقد ارتفع الاستهلاك المحلي المعوم 9 في المائة في العام الماضي. فالتذبذب خلال العامين الماضيين أشعل النقاش مرة أخرى حول توسيع قاعدة الإيرادات الحكومية، على الأرجح من خلال تقديم ضرائب ذات قيمة مضافة للتقليل من التعرض للمخاطر الدورية. وبالمثل، فالقيود على الموارد قد تستلزم استعراض عديد من الإعانات. والتقدم في هذا الصدد سيمكن الحكومة أيضاً من تخصيص بعض احتياطياتها المالية بشكل واضح ومستمر، سواء للاستقرار أو الاستثمار طويل المدى. ويسجل لصندوق أجيال المستقبل في الكويت قيامه بمبادرة مهمة في هذا الصدد.