أهل المال وأهل الثقافة
بين أهل المال - رجال الأعمال - وأهل الثقافة أكثر من وجه للشبه: فكلا الفريقين يدور أفرادهما في علاقاتهم وفي اجتماعاتهم وأعمالهم وأسمارهم حول بعضهم بعضا. كما تستأثر بأحاديثهم مواضيع مجالهم، وإذا كان التنافس بين رجال المال والأعمال يتمحور حول الثروة والسعة في الاستثمار, فالمثقفون يتنافسون في الإنتاج الثقافي والسعة في الاطلاع، وتغلب على أفراد الفريقين الذهنية المستنيرة والعصرية، وكذلك يحبذون السفر والترحال والسياحة، وإذ لا يتردد أهل المال في الهرب برؤوس أموالهم للاستثمار في الخارج، فكذلك يطبع وينشر المثقفون نصوصهم ومؤلفاتهم في الخارج!! وكل فريق بحجة ذرائع خاصة به!!
الفارق الوحيد بينهما، أن أهل المال يتوقون، لأن يكون حظهم في الثقافة مثل حظهم في المال، والعكس صحيح عند أهل الثقافة في توقهم للمال، على أن هذا، طبعا، لا ينفي أن في الفريقين أفرادا يجمعون بين المال والثقافة, حتى إن كان في أهل المال متثاقفون لا تتعدى ثقافتهم تتبع المشاكسات في الصحف ومواقع الإنترنت (لزوم الجلسة)، فإن فيهم الأغزر ثقافة وعلماً وأعمق وعيا من بعض المثقفين، كما أن من بين أهل الثقافة أدعياء لكن بينهم كذلك من مكانته ووزنه البنكي والاستثماري يجعلانه في عداد قبيلة أهل المال!!
هذه المقارنة تتعدى أوجه التشابه أو الفرق إلى التأمل في العلاقة بين الفريقين، إذ على الرغم من أن بعض أهل المال يبدي اهتمامه الملحوظ بالثقافة وشجونها، إلا أننا نجد همته غالبا ما تقصر دون الانخراط في دعمها ومساندتها ماديا ومعنويا حتى إن كان يفتح صالوناً أدبياً، ويدير ندوة في بيته يوماً في الأسبوع، أو يرتاد المناسبات الثقافية ومعارض الكتب، ويتواصل مع أهل الثقافة أو يحرص على دعوة عينة من المثقفين يقوم بتنويعهم كل حين.
ومع ذلك.. فهذا التلاقي نهج جميل، له قيمته في إثراء المجالس بالفكر والثقافة والإبداع بدلاً عن تذويبها في ميعة الاستهلاك، إلا أن المطلوب حقا من أهل المال أن يتجاوزوا هذه الشهية المفقودة للاستثمار في الثقافة. وأن يبادروا إلى الاحتذاء بنظرائهم في العالم المتقدم. فمنذ خلع الغرب عصوره الوسطى، ودلف إلى عصر الإصلاح الديني ثم عصر النهضة، فالعصر الصناعي فالتقني، ظل رجال المال والأعمال هناك يواكبون هذه التحولات، وحملوا مشاعل العلم والثقافة والفن، فهناك من أسس الأكاديميات، ومراكز الدراسات والبحوث، والجمعيات، والأندية، والمسارح، ودور السينما، والمتاحف، والمكتبات، وهناك من تبنى جماعات فلسفية أو حركة مسرحية أو تشكيلية أو أدبية، وأنفق على تنقيبات أثرية، وعلى طباعة الكتب، والموسوعات، والمعاجم، ودوائر المعارف. كما شمخ الفن برعايتهم وإنفاقهم على الفنانين مباشرة أو بشراء اللوحات والمجسمات والمنحوتات بأثمان مجزية علاوة على افتتاح معارض الفنون (جاليريات) ومراسم لهم.
فهل فعل رجال مالنا وأعمالنا شيئا من ذلك؟ إن من التجني الإجابة بالنفي القاطع، لكن الأكيد المؤكد أنهم رهط قليل، فنحن لم نسمع عن كاتب تبناه رجل أعمال ولم نسمع ذلك عن فنان تشكيلي أو مسرحي أو مخرج أو مهتم بصناعة السينما، ولم نسمع أن رجل أعمال افتتح معرضاً للفنون، أو قام بتمويل مسلسل تلفزيوني، أو فيلم سينمائي، أو دشن صندوقا لدعم الثقافة والفن، أو قام بتأمين سكن لمبدع محتاج يؤويه مع أسرته، أو تبرع بالعلاج لآخر دهمه مرض عضال، أو أسس جوائز تحفيزية للإبداع، أو افتتح مركزاً للتدريب، كما فعل كارنيجي في نشره عديدا من مراكز التدريب في الولايات المتحدة أو فولبرايت في برنامجه للمنح والبعثات للطلاب من كل مكان، أو ما أقدم عليه بيل جيتس في تبرعه بجل ثروته للعلم والبحث والعمل الخيري ومثله فعل زميله وارن بافت أو الشهيد رفيق الحريري في ابتعاثه آلاف الطلبة اللبنانيين على حسابه وغيرهم، فالثقافة كانت هنالك وهناك صناعة أهل المال بقدر ما كانت نتاج قرائح أهلها. فلماذا لا تكون هنا؟!
أجزم أن البعض سيهز الرأس ذات اليمين وذات الشمال غير موافق على هذا الطرح باعتبار عوائد الاستثمار الثقافي، إما معنوية غير مباشرة وإما ربحية طويلة الأمد، وهذا صحيح، لكن بربكم: كيف لنا أن نجعل الطريق سالكاً بين أهل المال وأهل الثقافة، إذا لم يحتضن أحدهما الآخر؟!