قوة الأمم ومركزية التأثير
علّمنا التاريخ أن أوضاع الحياة لا تستقر على صورة من الصور بل إنها تتغير وتتحول من سيئ إلى حسن ومن حسن إلى سيئ سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الشعوب والأمم. ذكر القرآن الكريم أحوال أمم وجدت ذات يوم وكانت لها صولة وجولة وحضور وتأثير مثل قوم عاد وثمود وفرعون, حيث كان لهذه الأمم تأثير في محيطها, وربما تعدى هذا التأثير إلى ما هو أبعد من ذلك مع محدودية وسائل المواصلات وأساليب التأثير في تلك الحقب التاريخية, كما حدثنا التاريخ عن الفرس والروم وكيف كانوا يتقاذفون العرب يمنة ويسرة حسب مصالحهم حتى جاء الإسلام وغيّر العرب وحولهم من أمة مستضعفة مستكينة إلى أمة ذات عزم وقوة يحسب لها حسابها حتى امتد نفوذهم إلى أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً.
ومع قوة العرب التي اكتسبوها بفضل الإسلام تحولت عواصمهم إلى مراكز عالمية تشد إليها الرحال لطلب العلم أو للتقرب وإقامة العلاقات حتى أصبحت المدينة المنورة العاصمة الأولى للمسلمين قبلة تفد إليها الوفود وتبعث إليها الرسل من كل حدب وصوب, ثم مع الدولة الأموية تحولت دمشق إلى مركز عالمي وبعدها بغداد التي أصبحت منارة إشراق معرفي في المجالات كافة, وما إن فتحت الأندلس حتى أصبحت مدنها مقصد طالبي العلم والمعرفة يفدون للدراسة في مدارسها ومعاهدها والاستفادة من العلماء حتى بدأ المد الإسلامي ينتشر أثره في أوروبا نظرا لما أحدثه المسلمون من نقلة نوعية في المعرفة في تلك الحقبة الزمنية. أما إستنابول ودورها في السياسة العالمية أثناء الحكم العثماني فأمر سجلته كتب التاريخ, حيث الفتوحات والمد داخل أوروبا.
العالم الإسلامي بحواضره ومدنه أصبح مركزاً للعالم أجمع ونقطة تأثير بالغ في الشعوب والأمم التي وجدت في علوم المسلمين ومعارفهم نافذة تشع عليهم وتنقذهم من الجهل والظلام المطبق الذي كان يحيط بهم. وبانحدار المسلمين وتمزقهم وتوزعهم إلى دويلات وشعوب تتحارب فيما بينها وجدت الأمم الأخرى طريقها نحو القوة بكافة معانيها المعرفية والمادية والعسكرية والاقتصادية حتى بدأ يضمحل تأثير المسلمين ويقل بل ينعدم في بعض فترات التاريخ وبدلاً من القيادة والريادة التي كانوا يتمتعون بها أصبحوا تبعاً ضعيفاً لا يملكون اتخاذ قرار في أي شأن من شؤونهم.
إذا كانت الكرة الأرضية تدور حول الشمس وبفعل هذه الحركة تحدث ظاهرة الليل والنهار وتحدث فصول السنة فإن في حركتها ودورانها حركة اجتماعية وسياسية بين الأمم والشعوب, إذ إن مركزية العالم ومركزية التأثير ليست محتكرة في وطن أو أمة, وما حدث للمسلمين ومن سبقهم من قوة وضعف, حدث لبريطانيا التي كانت لا تغيب عن مملكتها الشمس, وحدث قبلها لأثينا مدينة الفلسفة والأخلاق والمدن الفاضلة, ورأينا قبل عقدين أفول مركز من مراكز القوة والجبروت في العالم حين سقط وتفكك الاتحاد السوفياتي الذي أراد أن يبسط نفوذه وفلسفة حياة شمولية بالقوة والسلاح حتى غزا الدول وسيطر عليها بالقوة العسكرية, كما حدث مع تشيكوسلوفاكيا وكثير من الدول الإفريقية التي كانت تتبع المعسكر السوفياتي. منذ الحرب العالمية الثانية وأمريكا ترتفع أسهمها ويقوى نفوذها حتى تحولت إلى بؤرة استقطاب دولي, إذ بجامعاتها ومراكز بحثها وقوة اقتصادها وبعتادها العسكري أصبحت قوة ذات سطوة وجبروت. احتضنت هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتحولت إلى مركز القرار العالمي في كثير من المجالات السياسي منها والاقتصادي والعسكري, وهذا بلا شك تحقق لها بفعل القوة التي اكتسبتها, قوة المعرفة والعلم, وقوة الاقتصاد والقوة العسكرية, وكذلك قوة القرار المدعم بالمعلومات والنظريات والحقائق والباحثين ومراكز البحث المتقدمة التي أنفق عليها الأموال وبذلت من أجلها الجهود.
مركزية أمريكا للعالم في الوقت الراهن جلبت معها كثيرا من المفاهيم ومن أبرزها مفهوم العولمة الذي أرادت من خلاله أمريكا أمركة العالم وإكساب شعوبه ثقافة وقيم أمريكا, ولذا غزت العالم ببضائعها ومطاعمها حتى تحول الذوق الأمريكي إلى ذوق جذاب في اللباس ونمط الحياة والمظهر العام وربما المفردات والأغاني التي يسعى الشباب لاقتنائها وسماعها حتى ولو كانوا لا يفهمون لغتها. مركزية أمريكا للعالم جعلت الدولار حاكما بارتفاعه تتأثر أسواق العالم وبانخفاضه كذلك السلع تسعر بالدولار وبقرار المجلس الاحتياطي الأمريكي لرفع أو لخفض الفائدة تتأثر الأسواق البورصة الأمريكية محط الأنظار والترقب وما يطرأ عليها من تذبذب يصيب البورصات الأخرى. هذه المركزية للعالم اختزلت العالم في قارة واحدة وما يصب في مصلحة تلك القـارة - وبالتحديد الولايات المتحدة - الأمريكية يجب أن يتحقق ودونما مناقشة أو مساءلة.
التفكير الأحادي ووفق هذه المركزية فرض من ليس معنا فهو ضدنا ومن يستمع إلى نشرات الأخبار يسمع ويشاهد العجائب, فلو عثر كلب في ولاية مينسوتا الأمريكية لتحول عثور الكلب إلى خبر عالمي تتداوله الإذاعات والقنوات التلفزيونية, بل إن ما يجتاح أمريكا من برد في فصل الشتاء يتم تناوله في أخبار الطقس على أن العالم تجتاحه موجة برد شديدة, والغريب في الأمر أن مثل هذا الخبر يقال بهذه الصيغة في بلدان تكون درجة الحرارة فيها معتدلة أو حارة, لكن قوة التأثير ومركزيته فرضت على العقول التفكير بهذه الأحادية التي تتجاوز وتنكر الواقع. وصدق الباري: «وتلك الأيام نداولها بين الناس».