واقع كليات «العلوم الإدارية» في الجامعات السعودية
بدأ القطاع الخاص في بلادنا يتجه بقوة نحو الاستثمار في التعليم العالي لعدة أسباب من أهمها عجز الجامعات عن إدارة التعليم العالي بكفاءة عالية, فهناك عدد من المؤسسات الأكاديمية التي تستثمر في التعليم العالي منها جامعة الفيصل، جامعة اليمامة، جامعة الأمير سلطان، كلية إدارة الأعمال في جدة، كلية عفت, وغيرها. وركزت هذه المؤسسات استثماراتها في تخصصي العلوم الصحية وإدارة الأعمال وتحاشت المجالات الأخرى كالتخصصات الهندسية، العلوم الطبيعية، العلوم الشرعية واللغوية لحاجة سوق العمل إلى مخرجات هذين التخصصين, إضافة إلى أن مخرجات الجامعات الحكومية لم ترق إلى الجودة المطلوبة, خصوصا في تخصصات إدارة الأعمال.
أول ما نلاحظه عند تحليل واقع كليات العلوم الإدارية هو الخلط الأكاديمي بين تخصصي الإدارة العامة وإدارة الأعمال. ولتوضيح أبعاد هذا الخلل نحتاج إلى الغور قليلا في العمق الفلسفي لأدبيات هذين المنهجين. يطلق لفظ الإدارة العامة, على الإدارات الحكومية التي تقدم خدمات مجانية تعم فائدتها جميع قطاعات المجتمع وأفراده، أي الخدمات التي تقدم للناس بإشراف الحكومة، وهذا اللفظ لا ينصرف مدلوله إلى الجهاز التشريعي أو القضائي للدولة, بل يقتصر على الجهاز التنفيذي فقط، لذا فهي تهتم بدراسة المنشآت الحكومية التي لا تهدف إلى الربح من وزارات، وهيئات، ومنظمات اجتماعية وتطوعية وغيرها.
أما إدارة الأعمال, فتهتم بدراسة منظمات القطاع الخاص التي تهتم بتعظيم الربح من حيث المنافسة، حصة السوق، المزيج التسويقي، ونوعية المنتج، مصادر الحصول على الأموال وكيفية استخدامها. وعمل كهذا يتطلب إتقان عدد من المهارات السلوكية، والكمية، والتقنية، واستخدام النظريات الاقتصادية والقوائم المالية, كما يتطلب تكييف بعض المصطلحات والنماذج العسكرية كالاستراتيجية والتكتيك والمناورات, لأن هناك تشابها بين أحوال السوق وميدان الحروب.
نشأ فكر إدارة الأعمال في الدول التي تتبنى الرأسمالية المطلقة كاليابان والولايات المتحدة، وأحسنت جامعاتنا أن أخذت هذا العلم من منبعه, إلا أنها ارتكبت خطأ جسيما عندما قامت بدمجه بفكر الإدارة العامة, ما أضعف البرامج الأكاديمية والأبحاث العلمية وأدى إلى رداءة المخرجات وأخر التراجم والتعريب لكلا التخصصين. وهذا الدمج كان سببه الاعتقاد بأن التخصصين وجهان لعملة واحدة, وأن نماذج ونظريات «الأعمال» هي نفسها نماذج ونظريات «العامة», ما أجبر هذه الكليات على أن تطلق على نفسها كلية العلوم الإدارية بحيث تحوي «العامة» و»الأعمال» وطوعت البرامج وكيفت معايير القبول لتقبل هذا الوضع الشاذ, وبهذا اختلط الحابل بالنابل حتى أصبحت كليات الأعمال في الجامعات السعودية لا تعكس المحتوى الذي يجب أن يكون, وبذا فهي تختلف عن مثيلاتها في العالم بأسره.
وهذا الخلل لم يقتصر تأثيره على الجامعات, بل تعدى ذلك إلى الوزارات والشركات والبنوك التي انحدر وضعها القيادي والإداري وأصيبت بالتخبط في كثير من أنظمتها وفقدت المنهجية وضلت الطريق نتيجة استقطاب مخرجات كليات العلوم الإدارية دون التفرقة بين «العامة» و»الأعمال».
وبعد مرور نصف قرن أدركت جامعاتنا أن هناك فكرين مختلفين تحت مظلة كلية واحدة. فقامت بتغيير اسم كلية العلوم الإدارية إلى كلية الأعمال، إلا أنها ما زالت تحتضن الإدارة العامة كأحد أقسامها, الذي كان من المفترض إلحاقها بكلية العلوم الاجتماعية أو كلية العلوم الإنسانية, لكن ما نلاحظه أن بعض أساتذة الإدارة العامة يرونه نقصا في انضمامهم للعلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية بسبب النظرة الدونية لمثل هذه التخصصات التي أحدثتها بعض الجامعات عندما قامت بارتكاب أكبر حماقة في تاريخ التعليم العالي بإغلاق التخصصات التي لا ترتبط مباشرة بسوق العمل. لذا نراهم يناضلون من أجل الاختباء تحت الأعمال ولو أدى ذلك إلى تشويه البرامج، وإعاقة الخطط، وسحق الأجيال، ولسان الحال يقول «نحن ومن ورائنا الطوفان».
أعود وأقول إنه على الرغم من عودة بعض جامعاتنا إلى الوضع الصحيح بعد عقود من الانحراف الأكاديمي، ومسخ للمخرجات، وهدر للموارد البشرية والمالية، إلا أن البعض ما زال يصر على خلط الأوراق وأن التخصصين متطابقان, فيتم بين الوقت والآخر إعادة هيكلة الأقسام العلمية كي تبقى «الإدارة العامة» تتبع كليات الأعمال وإن استمر الوضع بهذا الحال فستجد «العامة» نفسها بعد حين من الدهر ابنا غير شرعي لـ «الأعمال».
هذا التشوه الذي أصاب كليات «الأعمال» في جامعاتنا أجبر القطاع الخاص على أن يأخذ على عاتقه مهمة تصحيح الوضع فقام بإنشاء عدد من كليات الأعمال بعيدا عن تخبط الجامعات، إلا أنه ـ مع الأسف ـ ظل يستعين بأساتذة «العامة» في تدريس بعض المواد للنقص الشديد الذي تعانيه الجامعات من المتخصصين من حملة الدكتوراه في إدارة الأعمال.
وأريد أن أنوه إلى أن بعض كليات الأعمال في بعض الجامعات الناشئة استفادت كثيرا من عشوائية كليات العلوم الإدارية في الجامعات السعودية القديمة فصممت برامجها بما يتناسب والوضع الأمثل لكليات الأعمال, وأعانها على ذلك استئناسها بنصائح المركز الوطني للتقويم والاعتماد الأكاديمي.
وختاما أرجو ألا أكون قد أغضبت أحدا بمقالي هذا, فالهدف التصحيح والتقويم ويظل الوضع رأيا يمكن قبوله أو رفضه, كما أرجو ألا يؤدي اختلافنا إلى خلاف يقطع جسور الحب والود بيننا.