رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المسؤولية المحدودة .. توسيع أم تضييق؟!!

حوادث إفلاس للشركات بالآلاف في الولايات المتحدة وفي دول أخرى تحذو حذوها, ومع ذلك لا نسمع عن إفلاس الأثرياء, من ملاك تلك الشركات, فما السر؟!!
إنه بكل بساطة المسؤولية المحدودة للشركات التي أحاطت ملاك الشركات بسياج حديدي يمنع المساس بهم, أو الاقتراب منهم, أما أموال الدائنين ومستحقاتهم فالضمان الوحيد لها رأسمال الشركة, وما زاد من ديون ومستحقات عن رأس المال فمن ماء البحر..!
أعرف جيداً أن التشريع لهذه المسؤولية لم يكن قاصراً على المشرعين الغربيين, بل إن السماح بها جاء على لسان قرار مجمع الفقه الإسلامي, حيث أجاز القرار المسؤولية المحدودة في الشركات المساهمة وذات المسؤولية المحدودة, وأجازها في شركات التوصية البسيطة وبالأسهم - بناء على توصيات الندوة الثانية للأسواق المالية بالبحرين - ومهما يكن من شيء فهو قرار جدير بالاحترام, كونه صادراً من مجمع فقهي له ثقله الكبير في الأوساط العلمية, ولكن في الوقت نفسه لا بد من الإشارة إلى آراء أخرى مخالفة في المسألة, لها قوتها وحضورها العلمي أيضاً, ومنها المنع من تحديد المسؤولية إذا أذن الشركاء بالاستدانة, أو الاقتراض, أو الشراء بالأجل, كما ذهب إليه الدكتور حسين فهمي؛ استناداً إلى المفاسد الناتجة عن تطبيق الفكرة الواسعة للمسؤولية المحدودة, ومنها:
أولاً: وقوع الغرر بصفة دائمة على فئة الدائنين المتعاملين مع الشركات, الذين لا يدرون ما قدر الدين الذي يمكن استرجاعه من الشركة المدينة.
ثانياً: تمادي فئة المديرين في زيادة نسبة الديون والقروض التي تتحملها الشركة إلى إجمالي حجم الأموال المستثمرة (رأس المال + الاحتياطيات + الديون).
ثالثاً: ميل معظم المساهمين إلى عدم الاهتمام بتطوير الأحوال الإدارية والمالية للشركة بصفة عامة؛ نتيجة محدودية مسؤوليتهم, وتضاؤل نيتهم للمشاركة الفاعلة.
رابعاً: إن تحديد المسؤولية يشجع فئات معينة من المساهمين على الدخول في عمليات مضاربة غير مشروعة على أسعار الأسهم, سعياً وراء تحقيق أرباح سهلة, بدلاً من الاهتمام بمتابعة نشاط الشركة, والتأكد من كفاءة أدائها.
خامساً: إن تحديد المسؤولية للشركاء يشجع على انتشار ظاهرة التركز العائلي للملكية, حيث تتركز أعداد كبيرة من الأسهم في أيدي عدد قليل من المساهمين القادرين في ظل الأمان القانوني لأموالهم الخاصة.
أما وقوع العكس, وهو حين تتسع المسؤولية لتشمل جميع المال, فإن هذا من شأنه أن يوسع قاعدة الشركاء لتقليل حجم المخاطرة. وأيضاً فإن المسؤولية المطلقة - لا المحدودة - تحقق عديدا من المصالح, ومنها:
أولاً: أنها تحفز المؤسسين وأعضاء مجالس الإدارات على زيادة الحرص وتوخي الدقة في إدارة أعمال الشركة؛ لاستحضارهم ما تنتجه المسؤولية المطلقة.
ثانياً: أنها تحارب حالات عدم الأمانة من جانب بعض الشركاء.
ثالثاً: أنها تحد من التمادي في زيادة حجم الديون على الشركة, بما ينأى بها عن احتمالات الفشل والعسر المالي.
رابعاً: أن الأخذ بمبدأ المسؤولية غير المحدودة لن يؤثر في باقي المزايا التي تحققها الشركات المساهمة وذات المسؤولية المحدودة.
ويمكن أن يضاف للنقاط التسع التي ذكرها الدكتور حسين فهمي في بحثه الموسوم بـ «الشركات الحديثة والشركات القابضة»، أن القول بالمسؤولية المطلقة يحمل المساهمين على الدخول في الشركات ذات الربحية والملاءة المالية, ويجنبهم الدخول في شركات ما يسمى بـ «الخشاش», كما أن هذا القول منسجم مع أصل شغل الذمة, الذي جاءت النصوص الكثيرة بتقريره, والتأكيد عليه, ومن ذلك الأحاديث الدالة على وجوب سداد الدين للقادر, كحديث (نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين) وكعدم صلاته ــ صلى الله عليه وسلم ــ على من توفي وفي ذمته دين, وقوله معتذراً ومنددا (صلوا على صاحبكم), وكحديث الاستعاذة من ضلع الدين, ومن المغرم, وكحديث التنديد بمماطلة الدائن, ومنه (مطل الغني ظلم) ... إلخ.
وحين نستحضر اليوم ما آلت إليه أساليب التهرب من الديون بشكل مقنن, ندرك البعد المقاصدي في اهتمام الشارع بسداد الديون, وبقائها في ذمة المدين حتى وهو في قبره! حيث مهدت المسؤولية المحدودة لانهيار شركات بالآلاف نتيجة الأمان الذي يشعر به الملاك, إذ يعلمون جيداً أن الخسارة التي تلحق بالشركة لا تتسلل إليهم في أموالهم الخاصة, وهذه الانهيارات المتتابعة للشركات في الدول التي وضعت أفضل الأنظمة لحماية ملاكها, تدل دلالة واضحة على أن تساقط هذه الشركات ذات المسؤولية المحدودة كتساقط أحجار الدومينو قد حمى الملاك من المسؤولية, لكنه لم يحم الموظفين البسطاء ممن ألقت بهم الشركات في لجة البطالة يهيمون على وجوههم في الأزقة والطرقات.
إن المسؤولية المحدودة حمت الملاك فعلاً, ولكنها قبل ذلك مهدت لهم الطريق لتجرع صفقات غير محسوبة, وواضعو أنظمة الشركات يدركون ذلك جيداً؛ بدليل أنهم أناطوا الإدارة الخارجية لشركات التوصية (البسيطة وبالأسهم) بالشركاء المتضامنين لا بالشركاء الموصين أو المساهمين, وذلك لمبررات عدة, من أبرزها وأهمها أن المنظم على قناعة تامة بأن الشركاء المتضامنين أكثر حرصاً على مصلحة الشركة, وأنهم يحسبون ألف حساب لأي صفقة يجرونها.
ويعظم خطر المسؤولية المحدودة حين يسمح بها للبنوك والمصارف, وذلك أن أي انهيار فإنه يعني حماية الملاك في أموالهم الخاصة, وابتلاع العملاء الكارثة, كما حصل في عدة دول أجنبية.
ومن هنا فإنه يجب إعادة مجمع الفقه الإسلامي النظر في قراره السابق, ولا سيما أنه لم يعط الموضوع حقه بالمناقشة في المجمع؛ حيث بنى قراره على توصيات ندوة البحرين, فضلاً عن رأي عدد من فقهاء الشريعة بالمنع.
ويزيد الخطر اتساعاً بتوسيع هامش المسؤولية المحدودة, من خلال ما يسمى بشركة الشخص الواحد, ولعل الفرصة تتاح للحديث عنها ـ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي