الحوار الوطني الصحي..تصحيح لبعض الأخطاء المقدمة في جلسات الحوار
لقد سبق أن دعوت لحوار وطني حول التأمين الصحي قبل ثلاث سنوات على نفس هذه الزاوية، كما كتبت مقالين عن الاجتماعات التحضيرية للحوار الوطني الأول بعنوان الحوار الوطني حوار مع الحوار، ومقال آخر بعنوان الحوار الوطني حوار آخر مع الحوار. ولعلي في هذا المقال أبدأ بالشكر لوزارة الإعلام لنقل الحوار الوطني الصحي عبر قناتها الفتية ''الثقافية'' التي أتاح لكل مهتم بالشأن الصحي لمتابعة جلسات الحوار بكل يسر وسهولة. ولعل ذكر بعض المعلومات غير الدقيقة أثناء جلسات الحوار الوطني خصوصا أن الجلسات كانت تبث على الهواء دفعني لكتابة هذا المقال.
أولا: للأسف أنه تم تقديم بعض المعلومات الخاطئة حول حجم ما يصرف على الصحة، فهناك فرق بين مخصصات وزارة الصحة من الميزانية العامة، والمخصصات الحكومية للصرف على الصحة لأن لدينا قطاعات أخرى تسهم بفاعلية في تقديم الخدمات الصحية وتقدم أكثر من 20 في المائة من مجمل الخدمات الصحية المقدمة للصحة كالشؤون الصحية في الحرس الوطني ومستشفيات وزارة الدفاع والداخلية ومستشفى الملك فيصل التخصصي وغيرها من الجهات الحكومية الأخرى. لذا فإن مجمل ما تصرفه الدولة على الصحة ليس فقط 3 في المائة كما ادعى البعض أو 6 في المائة كما ادعى البعض الآخر بل تجاوز ما تصرفه الحكومة على الصحة 9.17 في المائة من مجمل المصروفات الحكومية عام 2007 حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية المنشورة في آذار (مارس) من العام الماضي. لكن يجب التمييز بين مجمل ما يصرف على الصحة من الميزانية، ونصيب الصحة من مجمل الناتج المحلي. كما يجب التمييز بين ما يصرف على الصحة وما تصرفه الحكومة على الصحة. قد لا تكون لدينا مشكلات في كيفية الحصول على الدعم المالي اللازم لدعم الميزانية الصحية بسبب تكفل الدولة سنويا بدعم القطاع الصحي بنسبة تراوح بين 8 في المائة و9 في المائة من ميزانيتها السنوية, خصوصا الميزانيات الصادرة بعد عام 1999 عندما قفزت مخصصات الصحة من 5 في المائة عام 1998 إلى 9 في المائة ما بعد عام 1999 من مجمل الميزانية العامة للدولة. هذه النسبة لا شك جيدة, خصوصا أن نسبة الإنفاق الحكومي على المصروفات الصحية في حدود 80 في المائة من إجمالي النفقات على الخدمات الصحية. كما أن الضمان الصحي التعاوني رافد آخر ومهم جدا في دعم المخصصات الصحية وزيادة مشاركة القطاع الخاص في نسبة الإنفاق على الخدمات الصحية.
للأسف أن أنظمة صحية لديها ميزانيات أقل من ميزانياتنا الصحية، ومع ذلك نجحت في الاستفادة من مخصصاته الصحية. فمثلا النظام الصحي البريطاني الذي يعد من أنجح الأنظمة في الاستفادة من ميزانيته السنوية، حيث تشكل الميزانية الصحية في حدود 8 في المائة, ومع ذلك فمخرجات النظام الصحي البريطاني أفضل من عديد من الدول المتقدمة التي تفوقها إنفاقا على خدماتها الصحية. كما أن التشريعات الأخيرة على النظام الصحي البريطاني سرعت في حصول المواطنين على الرعاية الصحية, خصوصا عندما اشترطت إبان حكومة بلير ألا تزيد مدة تحويل المريض للإخصائي في حالة التحويل الروتيني ''غير المستعجل'' على 14 أسبوعا.
ثانيا: ذكر أحد المختصين بالشأن الصحي أن أنواع التأمين الصحي المطبقة في الدول نوعان: تجاري واجتماعي. لكن الحقيقة تقول يجب أن نفرق بين الأنظمة الصحية وكيفية النظرة لها. فهناك أنظمة صحية مبنية على إيجاد قنوات لتحصيل المال من أجل دعم، تشغيل خدماتها الصحية (ضرائب أو نظام تأمين اجتماعي أو تأمين تجاري) وكيفية شراء الخدمات الصحية (عبر تأمين صحي أو عبر المستشفيات الحكومية فقط أو عبر المستشفيات الحكومية والخاصة وكيفية الدفع أو شراء الخدمة وغيرها). فيجب أن يفرق بين النظام الصحي الاجتماعي والنظام الصحي الحكومي للاختلاف الكبير من ناحية كيفية تمويل الخدمة وكيفية تقديمها وكيفية إدارتها.
ثالثا: البعض أبدى تحفظا على خصخصة الخدمات الصحية دون أن يحدد معنى الخصخصة الذي يتحفظ عليه. فالخصخصة من المفاهيم المتشعبة جدا لارتباطه بمصدر تمويل الخدمات الصحية وكيفية إدارته وتوزيعه. فالبعض تحدث عن الخصخصة وكأن مصطلح الخصخصة يعني فقط تحمل متلقي الخدمة العلاجية جزءا من تكلفة الخدمة الصحية المقدمة. وهذا الكلام غير صحيح إطلاقا، لأن الخصخصة قد تكون فقط في إدارة الخدمات الصحية لا مصدر تمويلها. فمثلا ركزت وزارة الصحة البريطانية وعبر NHS على تشغيل المستشفيات لكنها خصخصت مركز الرعاية الأولية لأطباء الأسرة والمجتمع (ليسوا بالضرورة موظفين لدى NHS) بحيث يتم دعم وتشغيل تلك المراكز عبر مخصصات مالية لمن يشغل تلك المراكز الصحية, كما يحق للمريض أن يختار المركز الصحي الذي يعالج فيه في حدود منطقته. هذا الإجراء يجبر القائمين على تلك المراكز على تقديم خدمات ذات جودة عالية نسبيا, كما أن طريقة الاعتماد المالي لمشغلي تلك المراكز تتم عبر النظر إلى عوامل محددة سلفا كعدد المرضى المراجعين لتلك المراكز ومدى مساهمة المراكز في تحسن حالة المرضى الصحية, خصوصا الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وغيرهما, إضافة إلى إسهامها في إقلاع المرضى عن العادات الصحية السيئة كالتدخين وتقليل السمنة وغيرها, لذا تجد الطبيب يحرص على تحسن حالة مرضاه الصحية من أجل زيادة الدخل المرتبط بتحسن حالة المرضى الصحية. فقياس مخرجات مراكز الرعاية الأولية ليس عسيرا ومن السهل وضع مؤشرات أداء لمراقبة إنتاج وفاعلية تلك المراكز. لذا تعد مراكز الرعاية الأولية ''تسمى طب الأسرة والمجتمع لارتباط الطبيب بالأسرة'' من أنجح المراكز الصحية بسبب نجاح تشغيلها بعيدا عن البيروقراطية التشغيلية. كما أن المراكز الموجودة في مناطق بعيدة يتم دعمها بشكل خاص.
ختاما أتمنى من القائمين على مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني أن تكون لديهم جهة استشارية متخصصة تكون بمثابة الرقيب اللغوي في تصحيح المعلومات أو المفاهيم الخاطئة خصوصا أن جلسات الحوار تبث بشكل مباشر. ولا يعني هذا الطلب تضييق الحوار ولكن الحوار يجب أن يكون بعد الاتفاق على التعريفات أو المصطلحات التي يدور حولها الحوار. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فليس من المعقول أن نختلف أو نتفق دون تحديد هوية مشتركة لما نتفق أو نختلف عليه.