رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


هذه المرة تختلف

نشرت مجلة ''الإيكونومست'' في عددها الأخير تقريراً من 14 صفحة حول الاقتصاد الأمريكي ما بعد الأزمة يتميز بشموليته ورؤيته الاستراتيجية للتحولات التي أحدثتها الأزمة المالية العالمية في الاقتصاد الأمريكي، وكيف يمكن أن تؤثر في الاقتصاد العالمي. وهو تقرير يستحق الترجمة والنشر والقراءة عدة مرات لأنه يوضح بشكل دقيق كيف أن هذه الأزمة متميزة بكل المقاييس من حيث آثارها المستقبلية على الاقتصاد العالمي. قد ينتج عن هذه الأزمة ـ وهو ما بات واضحاً – تغير في موازين القوى من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق, وقد ينتج عنها تغير كبير في الأنماط الاستهلاكية والادخارية للشعوب. ولأخذ فكرة عن حجم هذا التأثير والتغيير الذي تركته هذه الأزمة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي سأستعرض بعض الأرقام التي أوردها التقرير:
أولاً: انخفضت أسعار المنازل والأصول المالية بنسبة 30 في المائة من أعلى نقطة وصلت إليها منذ بداية الأزمة.
ثانياً: ثروة القطاع العائلي في الولايات المتحدة انخفضت بما مقداره 12 تريليون دولار، بنسبة 18 في المائة منذ عام 2007.
ثالثاً: الدخل العائلي المتاح Households Disposable Income تراجع إلى مستوى عام 1995. بمعنى آخر التراجع 15 عاماً إلى الوراء.
رابعاً: ديون المستهلكين ارتفعت بشكل كبير من نسبة 80 في المائة من الدخل العائلي المتاح إلى نسبة 129 في المائة، ما يعني أن المواطن الأمريكي أصبح في المتوسط مديناً بنسبة 30 في المائة من دخله.
خامساً: حدث تغير ملحوظ في إنفاق المستهلكين منذ عام 1991 عندما مثل الإنفاق الاستهلاكي ما نسبته 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ليرتفع إلى 76 في المائة عام 2005، ثم عاود التراجع إلى نسبة 73 في المائة من الناتج.
سادساً: تراجع إصدار بطاقات الائتمان بنسبة 20 في المائة.
سابعاً: تغير في الأنماط الاستهلاكية على كل المستويات بما في ذلك مساحات بناء المنازل التي تراجعت لتتناسب مع تراجع القوة الشرائية للمستهلك الأمريكي.
ثامناً: تغير في نمط التوزيع الجغرافي للسكان بين الولايات، حيث انخفض الاتجاه إلى الولايات الجنوبية، وزاد تركز الناس في المدن الكبيرة، وهذا بالطبع سيكون له تأثير في أوضاع المالية العامة في مدن الضواحي وولايات الجنوب بسبب تراجع عائدات الضريبة. تغييرات كبيرة أشار إليها التقرير وبالطبع سيكون لكل منها نتائج وآثار مختلفة .. لماذا؟ التاريخ الاقتصادي وتاريخ الأزمات بالتحديد يؤكد أنه بعد كل أزمة مالية يعود النمو الاقتصادي أقوى من السابق، ويكون التعافي قوياً. لكن الأزمة المالية الحالية تختلف لأنها ضربت النظام المالي نفسه الذي يمثل شريان الاقتصاد الذين ينقل التمويل (الدم) إلى الاقتصاد الحقيقي (القلب)، وبالتالي ضعفت قدرة هذا القطاع على توجيه الموارد المالية إلى القطاعات الاستثمارية المنتجة.
وفي هذا الإطار، أشير إلى كتاب صدر حديثاً لكل من كارمن رينهارت وكينيث روجوف الاقتصاديين المخضرمين حول الأزمة المالية عنوناه بـ : ''هذه المرة تختلف'' This Time is Different، لكن مرة أخرى لماذا؟ الكاتبان قاما بدراسة الأزمات المالية لأكثر من 800 عام مضت، ووجدا أنه حسبما توافر من معلومات، لم يسبق أن حدث مثل هذه الأزمة إلا مرة واحدة فقط، في الثلاثينيات من القرن الماضي إبان أزمة الكساد الكبير عام 1929. هذا الأمر يخلف كثيرا من الغموض حول ما يمكن أن تنتج عنه هذه الأزمة، خصوصاً أن أزمة الكساد الكبير نتج عنها تغيرات كبيرة في خريطة الاقتصاد العالمي. لذلك، وخلافاً للأزمات المالية السابقة، لا يتوقع أن يعود الاقتصاد الأمريكي إلى النمو بسرعة لأن مصادر هذا النمو غير متوافرة بشكل (مستدام)، وهي الائتمان الرخيص والوافر والقدرة الاستهلاكية للأفراد. وهذا يعني أن هناك فجوة استهلاك في الاقتصاد الأمريكي قامت الحكومة الفيدرالية بسدها على الأمد القصير عن طريق حزم التحفيز المالي, ما أدى إلى ارتفاع الدين العام إلى نسبة 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن على الأمدين المتوسط والبعيد يتوقع أن تستمر هذه الفجوة بالنظر إلى عدم عودة النشاط الاقتصادي بقوة تحفز التوظف, وبالتالي تزيد الاستهلاك الخاص.
السؤال: من أين سيأتي الطلب الذي يسد هذه الفجوة ويحفز النمو الاقتصادي؟ طلب قطاع الأعمال يشكل نسبة بسيطة من حجم الاقتصاد الأمريكي لا تتعدى 10 في المائة, وبالتالي فإنه لا يتوقع أن يسهم في ردم هذه الفجوة. لذلك، فإن مصدر الطلب الذي سيسهم في ردم هذه الفجوة يجب أن يكون خارجياً، بمعنى أن الولايات المتحدة ستنحو منحى مختلفا هذه المرة يتمثل في الاعتماد على الصادرات لحفز النمو الاقتصادي, لكن في ظل المنافسة الشديدة من دول تتميز بارتفاع إنتاجيتها وانخفاض الأجور فيها كالصين، فلا يتوقع أن يكون هذا الطريق سهلا إلا باللجوء إلى دولار منخفض القيمة لزيادة تنافسية الصادرات الأمريكية.
ويضيف التقرير أن هناك عنصرين رئيسيين سيدعمان هذه التوجه هما أن الوجه الآخر لزيادة البطالة يتمثل في زيادة الإنتاجية, وبالتالي زيادة تنافسية الصادرات ومن ثم زيادة دخول الأفراد. والآخر أن الولايات المتحدة تركز على الصناعات المعرفية التي لا تنافسها فيها الصين مثل الأجهزة الطبية، وقطاع الخدمات الإبداعية كالسينما. ولأخذ تصور عن تأثير الأخير في ميزان التجارة الأمريكية مع العالم الخارجي يشير الكاتب إلى أن عائدات فيلم Avatar بلغت 2.6 مليار دولار وأن ما نسبته 70 في المائة من هذه العائدات أتت من الخارج.
لذلك، أتوقع أن نرى تغيرات كثيرة في المستقبل القريب تتمثل في دولار رخيص، ونمط ادخار متزايد لدى الأمريكيين المشهورين بالبذخ، واعتماد أقل على مصادر الطاقة التقليدية, وبالتالي تأثير أقل لها في ميزان التجارة، وتركيز على الإنتاجية لزيادة التنافسية. كل هذه التغيرات لن نكون أبداً بمعزل عنها وسيكون لنا يوماً ما حديث عن هذا الموضوع ـ إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي