رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الثورة في إدارة الشركات وتوجيهها

شهدت نهاية القرن الماضي قمة الثورة في تطوير إدارة الشركات وتوجيهها. كنت قد تحدثت في المقال السابق عن الدعوة إلى تطوير تشريعات الحوكمة في سبعينيات القرن الماضي. واستمرارا لتلك الدعوات فقد توالت الأحداث التي أسهمت في تغيير مفهوم وممارسات إدارة الشركات وتوجيهها. في ثمانينيات القرن الماضي كان الظهور الأول لمصطلح حوكمة الشركات Corporate Governance في الأدبيات الأكاديمية ما يشير إلى زيادة الوعي والاهتمام بالمسائل المتعلقة بحوكمة الشركات. هذا الاهتمام كان بمتابعة المستثمرين الجدد، خصوصا مع ظهور خطط وبرامج خصخصة مؤسسات القطاع العام. فقد شهدت بريطانيا منذ عام 1985 بداية برامج الخصخصة للشركات من مختلف القطاعات، كالاتصالات والتعدين والكهرباء لتضخ مبالغ كبيرة في خزانة الحكومة البريطانية تجاوزت 96.7 مليار دولار خلال عشرة أعوام. ما أدى إلى زيادة قيمة حقوق المساهمين في هذه الشركات. وهو ما حدا بدول أوروبية أخرى لتتبع هذه السياسة لاحقا ومنها على سبيل المثال ألمانيا، التي قامت بخصخصة قطاع الاتصالات في عام 1995، لتحقق الأهداف نفسها تقريبا.
الاهتمام بتطوير حوكمة الشركات بدأ بعد مجموعة من الانهيارات المالية لبعض الشركات الناجحة, إضافة إلى أن الاستثمار في الأسواق المالية أصبح مصدر الرزق الرئيس لعدد كبير من الناس، إما بصفتهم مساهمين وإما مضاربين، أو مستفيدين من خدمات مؤسسات التأمين ومعاشات التقاعد التي غالبا ما تستثمر جزءا من أموالها في الأسواق المالية. لهذا نرى أن قيمة سوق الأسهم البريطانية قفزت من 36 مليار جنيه استرليني عام 1971 إلى 514 مليار جنيه استرليني عام 1989.
وشهد العقد الأخير من القرن الماضي رقما كبيرا في الدراسات والتوصيات التي أثرت في إصدار عديد من التقارير والمعايير والقوانين المرشدة لأفضل الممارسات، التي نادت بتطوير الإفصاح والشفافية، وتحقيق التوازن بين مصالح الأطراف المختلفة داخل المنشأة.
في عام 1992، صدر في بريطانيا The Cadbury Report الذي تناول عديدا من القضايا، مثل عقود خدمة المديرين، فاعلية وموضوعية خدمات المراجعة، ودور الاستثمار المؤسسي. وكان هذا التقرير بمنزلة معلم أساس ونقطة تحول في تاريخ هذا العلم، فقد أصبحت توصيات هذا التقرير بمنزلة متطلب قانوني للشركات المدرجة في السوق البريطاني في عام 1993. وقد عرف هذا الإجراء بـ comply or explain الذي يجبر الشركات التي لا تطبق ما جاء في هذا التقرير بالإفصاح عن أسباب عدم التطبيق في تقاريرها المنشورة، وهذا كان نوعا من الإلزام لكن بطريقة غير مباشرة.
في عام 1995، كانت فرنسا قد عانت عديدا من الانهيارات المالية للشركات، ما قاد الجهات الفرنسية المختصة لمواكبة تقرير كادبوري الإنجليزي، بإظهار ما عرف بتقرير Rapport Vienot الذي أوصى بإيقاف التعامل فيما يعرف بـ cross shareholding وفيها أن الشركة X تملك أسهما في الشركة Y لتحمي كيانها القانوني من الاختفاء بواسطة الاندماج أو الاستيلاء من الشركة الأخرى. كما أوصى أيضا بإيقاف ما يعرف بـ cross directorships ومعناه أن مدير الشركة X يصبح عضوا في مجلس إدارة الشركة Y, وهذا قد يقود أيضا إلى وجود تضارب في المصالح بين إدارات الشركات المختلفة ومصلحة المديرين. كما أوصى هذا التقرير بضرورة إيجاد لجنة لترشيح أعضاء مجلس الإدارة ولجنة للمكافآت في الشركة، تختص بترشيح وتحديد مكافآت أعضاء مجلس الإدارة. تزامن هذا التقرير مع صدور تقرير لجنة Greenbury Report في بريطانيا، الذي ركز أيضا على مكافآت أعضاء مجلس الإدارة ليوصي بالإفصاح الكامل عن المدفوعات للإدارة من رواتب ومكافآت.
في عام 1998، صدر مزيد من التقارير والقوانين المطالبة بإصلاح الشركات, منها صدر في بريطانيا تقرير the Hampel Report الذي جاء شاملا للتقريرين الصادرين سابقا في بريطانيا وعرف نظام حوكمة الشركات منذ ذلك التقرير بـ Combined Code: Principles of Good Governance and Code for Best Practice . هذا القانون لم يكن ملزما للشركات وإنما يحث الشركات على اتباع ما جاء فيه. وانتهج هذا التقرير الاتجاه حول تحديد مسؤولية إدارة الشركة تجاه المساهمين بدلا من أن تكون المسؤولية في معناها الأعم تجاه جميع الفئات المستفيدة من الشركة، وهو ما حكم عليه بأنه انتصار لتوجه Shareholder orientation أكثر منه stakeholder approach. أيضا دعا هذا التقرير إلى الفصل بين وظيفتي مدير الشركة Chief Executive Officer CEO ورئيس مجلس الإدارة chairman.
فيما تبعه أيضا في فرنسا صدور التقرير الثاني من Rapport Vienot. في هذا الإصدار من التقرير كان الهدف تغيير الصورة التي تعكس الاهتمام الثانوي بتحقيق أهداف ومتطالبات المساهمين في الشركات الفرنسية، من خلال زيادة الإفصاح فيما يتعلق بمطالبات المستثمرين. وطالب هذا التقرير بالإفصاح عن سياسة المكافآت التي تمنح لأعضاء مجلس الإدارة، ودعا إلى ربط مكافآت مجلس الإدارة بالنتائج المحققة pay for performance بدلا من ربطها بالوقت أو العقود المسبقة.
في ألمانيا أيضا تم إصدار قانون ينظم أمور الإفصاح والرقابة على الشركات, فقانون KonTraG بين الاتجاه السائد نحو إصلاح قوانين الشركات فيما يعرف بحوكمة الشركات، ويعد التطوير الأول لقانون الشركات في ألمانيا منذ عام 1965 الذي منح قانونيا كلا من قضية حماية المساهمين وتعيين ممثل للعاملين في المجلس الاستشاري اهتماما أكبر. كما منح هذا القانون عديدا من القضايا اهتماما خاصا مثل قضية امتلاك أسهم في شركة أخرى، الأسهم الخاصة أو ما يعرف بالأسهم الذهبية golden shares التي تمنح حقوقا خاصة لحملة هذا النوع من الأسهم، الإفصاح، والديمقراطية في بعض القضايا الخاصة بالشركة مثل انتخاب أعضاء مجلس الإدارة. وقبل نهاية القرن الماضي، شهدت الولايات المتحدة تغييرات هي الأخرى فيما يتعلق بحوكمة الشركات من خلال صدور نظام Gramm-Leach -Bliley Act The والتوصيات الصادرة عن The Blue Ribbon Committee. وشملت هذه التوصيات موضوعات تتعلق بالإفصاح، مسؤولية ومساءلة المراجع الخارجي، استقلال المديرين الخارجيين، لجنة المراجعة الداخلية، وغير ذلك. وسعت البورصات العاملة في أمريكا مثل بورصة نيويورك NYSY وناسداك NASDAQ وبورصة الأوراق المالية الأمريكية AMEX لجعل هذه التوصيات إلزامية على الشركات المدرجة فيها منذ عام 1999.
التقارير والقوانين السابقة أسهمت إسهاما كبيرا في توجيه الاهتمام حيال حوكمة الشركات وتطويرها في وقت قياسي، ودعم هذا التوجه بالاهتمام الشعبي بموضوع الحوكمة، من خلال التغيرات الاقتصادية التي حدثت في هذين العقدين بالذات، إضافة إلى الأحداث الاستثنائية من تدهور وإفلاس بعض الشركات ما جعل موضوع وأسباب الانهيار المحرك الدائم للتطوير. ودعم هذا الأمر بالتطور الكبير في نشر المعلومات من خلال استخدام وسائل نشر أسهل وأسرع وأرخص، مثل الإنترنت, وهذا يصب في مصلحة العولمة وتسهيل الاستثمار في الأسواق المختلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي