رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


المنشق والمتحول

في عصر السطوة السوفيتية وهيمنة موسكو على الأحزاب الشيوعية، خصوصا فيما كان يسمى المعسكر الشرقي، كان أي مفكر أو عالم أو سياسي يعبر عن استقلال في الرأي تنفتح عليه أبواب جهنم باللعنات، ويوصم بألفاظ غلاظ من نوع: المنشق، التحريفي مع إضافة العمالة للإمبريالية ونحوه إليها. ذلك كان نصيب أبي القنبلة الذرية الروسية (زخروف) والروائي الكبير (ألكسندر سولجنستن) صاحب رواية (أرخبيل الجولاج) وحتى (لويس باسترناك) الذي تم ردعه عن تسلم جائزة نوبل على روايته (دكتور زيفاجو) وعن آخرين من غير روسيا مثل الروائي المدهش التشيكي (ميلان كونديرا)، صاحب روايات «الضحك والنسيان»، «كائن لا تحتمل خفته»، «الحياة في مكان آخر» وغيرها..
كانت كتابات وأقوال ومواقف أولئك في خروجهم على موسكو منحازة للكرامة الإنسانية والحرية في أسمى مقاماتها وهي حرية التعبير. كان النتاج أدبيا أو فكريا أوعلميا أو سياسيا صرخات احتجاج ضد الاضطهاد وتكميم الأفواه والحجر على العقول، وضد قسر الناس على استهلاك ما يقوله الحزب الشيوعي والانصياع له رغم الأنف!
ليس المقام هنا للتذكير بما ارتكب من مظالم في روسيا ودول المعسكر الشرقي آنذاك، إنما أردت من خلاله، المقابلة بين الخطاب الثقافي لأولئك المنشقين والتحريفيين وبين خطاب المتحولين عن تيار الصحوة الإسلاموي في عالمنا العربي، فقد كان خطاب المنشقين لا يرتكز على مرجعية شيوعية ليبرر بها انشقاقه، حتى وهو يقدم نقدا شرسا للأوضاع اللا إنسانية البائسة في روسيا ودول المعسكر الشرقي، فقراءة (باسترناك) أو (سولجنستن) أو (ميلان كونديرا) والاطلاع على تصريحات الهاربين السياسيين في حينه، لا تجد فيها أن أحدهم يبرر (استقلاله) أو (حريته) أو (ليبراليته) بالاتكاء على فقه ماركسي أو استشهاد بفقرات من متون أمهات كتب مكتبة الحزب، بمعنى أنك لا تجد عندهم حنينا دفينا لما ثاروا عليه، وإنما قطيعة مرجعية مع ذلك الماضي، وأن ما يرد من تراثهم الشيوعي في كتاباتهم أو كلماتهم يرد فقط كنقد مضاد وفضح ونسف له بفكر جديد مستقل مغاير تماما موجه ضد الشمولية والديكتاتورية الحمراء أو سواها في حطها من حرية الإنسان أو تحقيق ذاته.
المتحولون عن تيار الصحوة فعلوا عكس ذلك، فهم حين خرجوا عنه أو عليه سواء من كانوا من التكفيريين، أو الجهاديين أو... ظل خطابهم أسير رحلة صحويته حتى وهو يطرح موقفاً حداثيا مستنيرا ولم يعد متزمتا وإنما تصالحي مع الآخر يفتح فيه قوس تسامحه إلى أبعد مدى، فمعظم الكتابات أو اللقاءات التي صدرت عن شباب الصحوة وكهولها، ممن مارسوا الصحوية معتقدا وفكرا وسلوكا ثابرت على النهل من التراث الصحوي بكافة متونه السالفة واللاحقة والاتكاء عليه مرجعية ومنطلقا كي تبرر به، ومن خلاله تحولها، فهي تستنجد بفقرة منه أو بجزء من فقرة أو تقولب وتؤهل هذا الرأي أو ذاك ليناسب موقفها الراهن ويعزز حجتها.
المتحول عن الصحوة، وإن كان قد فارقها، بقي مسكوناً بالحنين إليها ثقافيا يمتص منها في القياس أو الاستشهاد غير قادر على الفكاك من هيمنتها على مخياله وعلى وعيه، مستلبة خطابه من حيث يدري ولا يدري، ففي الوقت الذي يعبر فيه عن انسلاخه وتحرره من موقف الغلو والتطرف متحولا إلى الانفتاح نراه، مع ذلك، متورطا في حالة التباس معرفي ثقافي لغوي، لم يستطع الخلاص من قاموسه الصحوي الذي أدمنه سنوات ولا أن يحل محله بديل عصري يتسق مع وعيه المتحول، فهو دائما كلما أزمع الابتعاد عن تراث الصحوة، آل إليه.. إنه يقسرنا على ابتلاع قراءته الجديدة لما يراه منفتحا حديثا من ذلك الماضي مبررا به ما انتهى إليه بعد تحوله.. ما يعني أنه يصر على أن قاموس الماضي (الانتقائي طبعا) صالح لأن يكون قاموس الحاضر، وفي هذا «تجميد» و»تحنيط» للزمن، ولا تاريخية لا تتفق مع تطور الواقع وديناميكية التاريخ، ذلك أن التشابه في الأقوال والمواقف هو فقط حالة عرضية شكلية، أما التطابق فلا سبيل إليه، فلكل عصر تخريجاته ومصطلحاته، ورؤاه ومناهجه، ومنجزاته، فالطائرة لا يتم تسويقها بالعودة إلى أسطورة العرب (عباس بن فرناس ـ إيكاريوس عند اليونان) وإنما بمكونها التقني، العلمي وتجليات صناعة العصر الحديثة.. والأمر نفسه يصدق تماما على المنجز البشري فكريا ومؤسسيا!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي