رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


صراع الأجيال: من سيدفع لمن؟

يركز التحليل الاقتصادي عادة على الظروف الآنية أو على الرؤية على المدى المتوسط، وبالتالي يخرج باستنتاجات ربما لا تعكس الواقع المستقبلي والمخاطر المحدقة بالنظام الاقتصادي بأكمله. كما أنه يفوت على الكثيرين أخذ الالتزامات التي تلتزم بها الدولة مستقبلاً في الاعتبار عند إجراء عملية التقييم الاقتصادي لدولة ما، وهذا يؤثر بشكل كبير في القدرة على التخطيط بالنسبة للمستقبل، حيث قد تجد الدولة نفسها عاجزة عن الوفاء بها عندما يأتي زمن استحقاق هذه الالتزامات. والسبب في ذلك أن إهمال الالتزامات المستقبلية قد يؤدي بالدولة إلى زيادة تحمل هذه الالتزامات عاماً بعد آخر. وحيث إن هذه الالتزامات لا تؤخذ في الحسبان عند تحليل الوضع الاقتصادي القائم فإن إمكانيات الدولة المالية ستكون مقومة بأكثر من الواقع، وبالتالي فإن التوسع في إصدار الديون يكون متاحاً بشكل أكبر.
أحد أنواع هذه الالتزامات المستقبلية الاستحقاقات التقاعدية لموظفي الدولة، التي تتزايد عاماً بعد عام مع تزايد عدد العاملين في الدولة. وحساب الاستحقاقات التقاعدية يتم بناءً على معادلة محددة مسبقاً يؤخذ فيها عوامل سنوات الخدمة والراتب النهائي أو متوسط راتب السنوات الأخيرة من الخدمة، بمعنى أن احتساب استحقاقات كل موظف لا يعتمد على تحقق العوائد نتيجة استثمار الأموال التي أسهم بها الفرد وأسهم بها رب العمل عنه في صندوق التقاعد، ولكن بناءً على معادلة محددة مسبقاً وهو ما يطلق عليه نظام الفوائد المعرفة Defined Benefits Plan. لذلك ينتج عن ذلك ما يسمى بالالتزامات غير الممولةUnfunded Liabilities التي تمثل الفرق بين القيمة الإجمالية لأصول الصندوق التقاعدي والقيمة الاكتوارية (المستقبلية) لقيمة الالتزامات المستقبلية تجاه المشتركين في النظام.
أغلب دول أوروبا والولايات المتحدة وعدد من دول الشرق الأوسط ودول جنوب شرق آسيا تعاني مشكلة في تفاقم قيمة الالتزامات غير الممولة من الأنظمة التقاعدية، مما جعل بعض الدول تفكر في نوع آخر من التقاعد يعتمد على عوائد مساهمات المشتركين وليس على معادلة محددة مسبقاً وهو ما يطلق عليه نظام المساهمات المعرفة Defined Contribution Plans. وفي هذا النظام يتم تحديد استحقاقات الموظف التقاعدية المستقبلية بناءً على قيمة ما يسهم به ويساهم به رب العمل عنه في الصندوق التقاعدي وبناءً على عوائد استثمار هذه المساهمات. لذلك، فإن هذا الصندوق يعطي الموظف الخيار في تحديد المخاطر التي يرغب في تحملها وتوزيع استثمارات مساهماته بين درجات الأصول المختلفة. ومن أمثلة ذلك حسابات التقاعد الفردية IRA و 401k في الولايات المتحدة اللذان يمثلان صندوقا تقاعد فرديان تعتمد استحقاقات الموظف فيهما على عوائد مساهماته في هذين الصندوقين.
وليس المجال هنا لمقارنة أنواع هذه الصناديق أو الحديث عن الأنظمة التقاعدية بالتحديد، ولكن الهدف إلقاء الضوء على الالتزامات غير الممولة التي تنتجها هذه الصناديق أو غيرها من القطاعات الاقتصادية الأخرى وتشكل بالتالي تهديداً لمتانة المالية العامة للدولة. فهناك مظاهر أخرى لا يتم أخذها في الاعتبار ويصعب نوعاً ما تقدير تكاليفها المستقبلية كالالتزام بتقديم الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي للمواطنين، وبالتالي فهي تمثل التزامات مستقبلية غير ممول يتطلب توفير الموارد المالية المستقبلية له. ولكي يتم توفير هذه الموارد ولضمان استمرارية هذه الأنظمة في توفير الغطاء الاجتماعي اللازم للمواطنين، يجب أن تؤخذ في الحسبان هذه الالتزامات عند إقرار المالية العامة حيث تعكس ميزانية كل سنة التمويل اللازم لاستمرار هذه الأنظمة في أداء التزاماتها.ولوضع هذا التصور في إطاره العملي لنأخذ على سبيل المثال الوضع في الولايات المتحدة. فبجانب الدين العام الذي بلغ 13 تريليون دولار، هناك التزامات غير ممولة لكل من نظام الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية تقدر بـ 99 تريليون دولار، وذلك حسب ما أشار إليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي لمدينة دالاس ريتشارد فيشر في كلمة ألقاها عام 2008. وإذا أضفنا إلى ذلك قيمة الالتزامات التقاعدية غير الممولة لأنظمة التقاعد الحكومية التي تبلغ قيمتها تريليوني دولار، فإن ذلك قد يعطي تصوراً عن حجم المشكلة المستقبلية التي ستواجهها الولايات المتحدة. وهذا ما أكده فيشر عندما أضاف أنه لا يوجد هناك أي أمل في إمكانية الاستمرار في سداد هذه الالتزامات غير الممولة بالاعتماد على الاستقطاعات الضريبية المخصصة لها، وأن الوضع لو استمر على هذا الحال، فإن الولايات المتحدة ستصبح من دول العالم الثالث.
لكن الواقع أن التجاذبات السياسية تلعب دوراً كبيراً في استمرار الحال على ما هو عليه، ففي سبيل الحصول على تأييد الناخبين يعمد المشرحين إلى زيادة هذه الالتزامات لإرضاء الناخبين وكسب تأييده من خلال زيادة الفوائد التقاعدية أو تخفيض الضرائب بغض النظر عن تأثيرها على الأجيال المقبلة. مثال ذلك ما أقره الكونجرس الأمريكي الأسبوع قبل الماضي بشأن قانون الرعاية الصحية الجديد الذي سيضمن التغطية التأمينية لأكثر من 16 مليون مواطن أمريكي لا يحصلون على التأمين حالياً، كما يمنع شركات التأمين من رفض التغطية الصحية لمن لديهم أمراض سابقة، ويقدم مساعدات ستضمن التغطية التأمينية لمن لا يوجد لديهم تأمين طبي. النظام هدفه جيد لكنه يأتي في الوقت غير المناسب حيث سيفاقم من الالتزامات المالية على الأجيال المستقبلية التي ستقوم بدفع الضرائب في المستقبل لتحمل هذا العبء، حيث ستكلف هذه الإصلاحات ما قيمته 950 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة.
هذه الالتزامات تطرح تساؤلاً بالخط العريض عن مدى استدامة القدرة المالية سواءً للولايات المتحدة أو للدول الأوروبية التي تواجه مشكلات مماثلة، إضافة إلى أنظمة تقاعدية سخية جداً. وإذا ما أخذنا في الحسبان ارتفاع متوسط الأعمار هناك وانخفاض الإنتاجية وثبات معدلات نمو السكان وتدني معدلات النمو الاقتصادي فإن الرؤية المستقبلية لا توحي بالتفاؤل أبداً على الأقل على المدى البعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي