رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الكاتب الصحافي بين مطرقة القارئ وسندان الصحيفة

تعد الصحافة منبرا للفكر وميدانا لتبادل الرأي ومتنفسا للكاتب ودوحة للقارئ، فوائدها جمة، وإسهاماتها عظيمة ومهمتها جليلة. وتأخذ الكتابات الصحافية أشكالا عدة ونماذج مختلفة منها الكتابات النقدية، والمقالات التوعوية والتنويرية، ومنها المقالات التحريضية والتحليلية والكتابات المعرفية وأخرى تمزج بين نوعين أو أكثر من كل هذا.
والقراء يختلفون في أذواقهم باختلاف الثقافة, البيئة, التنشئة, الديانة, التعليم, ودرجة الحرية المتاحة, فحديثو العهد بالحريات الصحافية تطربهم المقالات النقدية ويتلذذون بسماع سياط النقد وهي تلذع وإن كانت كيدية. أما الذين اعتادوا درجة عالية من الحرية فتشد انتباههم المقالات التنويرية الممزوجة بالتحليل والمدعمة بالبراهين والعمق المعرفي الرزين. بعض القراء ينظرون إلى المقال من الناحية الفنية فتأسر ألبابهم الصور البلاغية والصياغات الأدبية بغض النظر عما يحويه من معرفة وما يتضمنه من فائدة. شريحة أخرى ترى أن المقال الخالي من العبارات الرقمية والأساليب الكمية مقال أبتر عديم الفائدة تنقصه المصداقية.
وأين كانت خلفية القارئ وتذوقه فإنه يريد منتجا ذا مواصفات توافق هواه, ويريد مقالا يؤيد وجهة نظره ويطفئ اللهب المؤجج في دمه, وإن لم يفعل فيرى أن هناك خللا في توجه الكاتب, وهنا تبدأ التصنيفات, فهذا ليبرالي وذاك علماني, وهذا أجير وآخر تلميذ للمستشرقين والخامس تغريبي وهكذا. وإن وصُم أحد من الكُتاب بأي من هذه النعوت فلن يستطيع الفكاك منها ولو نزلت الملائكة من السماء تُقسم على حسن نواياه، وليس له في هذه الحالة إلا أن يندب حظه ويُرثي مصيره, فما أشقى المصير.
والصحف كالقراء تختلف في رسالاتها وتوجهها, فبعضها ترى أن ملامسة الخطوط الحمراء تحد ينبغي خوضه, معتقدةً أن الحرية الصحافية تُؤخذ ولا تُمنح، والكتابة في هذا النوع من الصحف أسهل بكثير من التي تخشى المغامرة وتهاب المواجهة وترى أن السلوك الإنساني والسلوك التنظيمي مثالي بطبيعته فيتم تفصيل المقالات في قوالب لا تقبل التأويل تحاشيا لأي سوء فهم, وعمل كهذا يقيد الكاتب ويحاصر أفكاره ويقتل إبداعه فتظهر كتابات جامدة وكلمات صلبة لا تخاطب عقلا ولا تلامس شعوراً.
والكُتاب في كرهم وفرهم بين تطلعات القراء وتوجهات الصحف يختلفون في ردات الفعل, فبعضهم يؤرق مضجعه سخط القراء ويظل إرضاؤهم شغله الشاغل, ويظن أن نجاحه ككاتب مرهون برضا القارئ. آخرون همهم الأول الصحيفة ولو اضطروا إلى طرق موضوعات لا يؤمنون بها طالما تقبل للنشر فتظهر لنا مقالات مشوهة وأفكار متناقضة، وقد يغيرون ما اعتادوه من قناعات وما آمنوا به من معتقدات. بعضهم الآخر لا يراعي أهمية لا للقارئ ولا للصحيفة, فإذا أحس بالضغوط من أي طرف فإنه لا يتردد في الخروج من الساحة وينكفئ على ذاته ويظل يكتب لنفسه وإن لم تكن هناك صحف تنشر أو قارئ يقرأ. صنف آخر يغيرون الكلم عن مواضعه فيدسون أفكارهم بين السطور فتظهر مقالاتهم أشبه بالرمزية وتظل رهينة لشريحة محددة من القراء تفهمهم ويفهمونها, ويبقون على هذه الحال يستلون المتعة من الكتابة كأنهم يستلون من بين الشوك ذابلات الورد.
هذه بعض من أحوال كُتاب الصحف يبقون بين سندان الصحيفة التي لا تريد خدش العلاقة مع الغير وبين مطرقة القراء الذين تختلف مشاربهم وثقافتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم.
ونستطيع أن نستخلص أن الصحافة إذا أرادت أن تمارس دورها كما يجب فما عليها سوى التحرر قليلا من قيودها وزيادة درجة حريتها, فالرقابة المبالغ فيها تقيد الفكر، وتقتل الإبداع، وتحدد المسار، وتجبر الكاتب على الخوض في موضوعات هامشية ويتحاشون النقاط الساخنة حتى لا تمنع مقالاتهم من النشر, فليس أمرّ على الكاتب من مقال يعصف فيه ذهنه ثم يمنع نشره.
وأنا هنا لا أقصد حرية مطلقة, فهذا صعب المنال حتى في العالم الذي يرفع شعارها, فمن يجرؤ، على سبيل المثال، الكتابة عن المحرقة اليهودية في الصحافة الغربية؟ لكن نريد درجة معقولة من الحرية ومن الحماية تجعل الكاتب يتجرد من الخوف ويأمن على سمعته فينطلق على سجيته ويخرج أنفس ما عنده على مبدأ التصحيح والتقويم وليس التشهير والتحريض، فكيف نعرف سيرتنا وحقيقة إنجازاتنا إن لم تُظهر عيوبها جهات خارجية كالصحافة ونحوها؟ كما أرى سن قوانين تحمي الكُتاب من تلويث السمعة وإلصاق التهمة لمجرد مخالفته رأي الأغلبية.
علينا أن نطلق العنان للصحافة في ممارسة دورها الحقيقي في تنوير وتهذيب الناس وتقويم المنظمات وإن لم نفعل, فنخشى هجرة الأقلام المكلومة والأفكار المكبوتة, وتبقى صحفنا تكتب لكنها لن تجد من يقرأ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي