الكتاب والثقافة والعلاقة المفترضة
منذ زمن بعيد والكتابة تمثل أحد النشاطات الأساسية في حياة الإنسان، مع أنها أخذت صوراً بسيطة، واستخدمت أدوات بدائية في السابق, لكن أهمية الكتابة في تنظيم حياة الناس والتواصل بينهم, جعلت هذا النشاط ذا قيمة في حياتهم حتى أصبحت الكتابة في الزمن الراهن نشاطاً رئيساً من أنشطة الناس أفرادا وأمما، بها تنتظم التبادلات التجارية، وعن طريقها تكون التفاهمات السياسية، وبها تعقد المؤتمرات والندوات، وعن طريقها يتعلم الناس الجديد من المعارف والعلوم. ووردت كلمة الكتابة وتصريفاتها المتعددة في القرآن الكريم عشرات المرات, وهذه إشارة واضحة لأهمية الكتابة، والكتاب في حياة الأمم والشعوب.
ونظراً لأهمية الكتابة والكتاب فقد عنيت الأمم بالكتاب وصناعة الكتاب، وتأسست لهذا الغرض مؤسسات متخصصة تعنى بطباعته وتأليفه، ونشره بين الناس ليس في الوطن الواحد, لكن عبر الحدود، كما أصبحت تقام المعارض من أجل الكتاب وتسويقه سواء بهدف نشر المعرفة والفكر الذي يحمله الكتاب بين دفتيه, أو بغرض الكسب, وتحصيل المال.
قبل ما يقارب الأسبوعين أقفل معرض الكتاب أبوابه بعد أن شرع أبوابه لمدة عشرة أيام عرضت خلالها 650 دار نشر ما لديها من كتب سواء جديدة أو قديمة مكرورة، وتفاعل الجمهور من كل المستويات العمرية, ومن ذكور وإناث, ومواطنين وغيرهم, مع هذه الظاهرة, وتوافدوا على المعرض طوال ساعات عمله, التي امتدت حتى الساعة العاشرة مساء مع ما صاحبته، من ندوات ومحاضرات انكب عليها كثيرون بهدف الاستفادة من أطروحاتها, وما يتداول خلالها من فكر ومعرفة وقضايا تمس الثقافة والوعي بشكل عام، وتعالج قضايا الإنسانية الشائكة في فهم بعضهم البعض الآخر.
تساءلت وأنا أجول في المعرض, وأشاهد الناس, وهم يبحثون عن مبتغاهم من الكتب خاصة الجديد منها, عن الهدف أو الأهداف التي يحملها كل واحد من مرتادي المعرض, هل هو بهدف كسب المعرفة والمعلومة الجديدة في حقل من الحقول بغرض إنجاز بحث، أو أطروحة في جامعة؟ أم بهدف الاستزادة من المعرفة والتوسع فيها؟ أم أن الهدف زيادة الوعي والوقوف على معالم المجتمعات الأخرى وثقافاتها وعاداتها وتقاليدها؟ أم أن الهدف الوقوف على حقيقة أحداث تاريخية لأمة من الأمم أو منطقة جغرافية؟ هذه كلها ربما تكون أهدافاً لفرد أو أحدها, لكن ما يجمع هذه الأهداف هو أن أثر الكتاب عند تأليفه ونشره ومن ثم وصوله إلى يد المستفيد, وقراءته هو نشر الثقافة والوعي وتغيير طريقة التفكير، ومن ثم توجيه السلوك بالشكل الذي يخدم المصلحة العامة للمجتمع. تساءلت وأنا ألاحظ تصرفات الناس، خاصة في مواقف السيارات وطرقات المعرض, عن مقدار الوعي الذي أحدثته صناعة الكتاب عند بعضهم, خاصة أن تصرفات بعضهم تكشف قصوراً في الوعي، وأنانية مفرطة، فالسيارات تراها قد احتلت الرصيف وحرمت المشاة من المشي بهدوء وسلام, كما تراها قد أوقفت على المسطحات الخضراء، كما تلاحظ بعضهم يسير بسيارته عكس الطريق، وآخر يقف في تقاطع أو منعطف ما يحدث إرباكاً مرورياً لا حدود له. هل نحن نقتني الكتب لمجرد تزيين بيوتنا بها فقط - ونعم الزينة - هي إذا اقترنت بالقراءة, والاستفادة من الكتاب، واستلهام ما فيه من فكر يرفع من وعي الناس إزاء كثير من القضايا الاجتماعية, البيئية, السياسية, والثقافية. إن الكتاب لا تقتصر أهميته في توسيع المعرفة, لكن في إحداث التغيير لدى الناس, التغيير الذي يستهدف طريقة التفكير, ويؤثر في السلوك بما يوجهه الوجهة المناسبة التي يترتب عليها حسن استثمار الموارد, والوقت والمحافظة على الممتلكات العامة, وحسن التعامل مع الآخرين, والمحافظة على النظافة, والصحة, واحترام النظام وليس فقط الوعي به.
كما سبق أن أشرت إلى أن ظاهرة الإقبال على المعرض واقتناء الكتب ظاهرة جميلة, وتزيد مع الوقت, لكن الأجمل أن نجد أثراً للكتاب في حياتنا حتى لا نكون كمن يحمل الكتاب وهو لا يفقه ما في الكتاب, ولا ما يحمله معه. إن تصرفات بعضنا في محيط معرض الكتاب تشوه صورتنا, وتظهرنا كما لو أننا شعب متخلف لا نقيم وزناً للنظام, ولذا تساءلت وأنا أشاهد هذه البثور: هل يرضى أصحاب هذه التصرفات بأن يرجع المشاركون في المعرض من الخارج بصورة سلبية عنا؟ وهل يقبلون أن تكون راحتهم على حساب راحة الآخرين؟ وهم يحدثون الزحام, ويحرمون الناس من المشي براحة على الرصيف الذي وضع للمشي وليس لوقوف السيارات؟! كما تساءلت عن مدى إمكانية توفير طاقم ينظم ويفرض النظام رغم أنه يوجد عدد منهم لكنهم لا يستطيعون إدارة مثل هذه التظاهرة الكبيرة فهي أكبر من طاقتهم نظراً لأن المكان أصغر مما كان يتوقع من خطط, ونفذت منشآت ومواقف ومرافق المعرض, وهذا في حد ذاته قصور يكشف حاجتنا إلى الكتاب كي يرفع كفاءة التخطيط والتنظيم لدينا.
إذا كان الكتاب معرفة وعلماً, فإن الثقافة معرفة ونضج ووعي وسلوك وطريقة تفكير .. فهل نجعل وعاء المعرفة (الكتاب) أداة ووسيلة ترفع من مستوى ثقافتنا بعناصرها كافة؟!