رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


حوكمة الشركات .. بين جرائم وفشل الإدارات (1من6)

في الأسبوع الماضي كان الحديث عن إحدى الدراسات الأكاديمية التي أرخت لمسيرة حوكمة الشركات والمساءلة في العالم، ووردتني على أثرها بعض التساؤلات عن تاريخ الحوكمة وعن إمكانية الإلزام بالتشريعات المنظمة لها. لذلك سأطرح مجموعة من المقالات التي تتحدث عن نشوء الأسواق المالية، والتطورات فيها لحين ظهور ما عرف بحوكمة الشركات Corporate Governance في دول العالم, مستندا إلى كتاب Corporate Governance how to add value من تأليف Ulrich Steger & Wolfgang Amann.
يبين الكتاب أن مصطلح Corporate Governance الذي ترجم إلى العربية على أنه حوكمة الشركات لم يظهر للوجود إلا في منتصف الثمانينيات، إلا أن المسائل المتعلقة بهذا المصطلح سبقت في الظهور بوقت طويل منذ عام 1840. فإن التطور الذي شهده قطاع البنوك وشركات التعمير في الولايات المتحدة، أدى إلى الفصل بين الملكية والإدارة، ما نتج عنه ما عرف بمفهوم Principal-agent theory نظرية الوكالة أو كما عرفت سابقا بمشكلة Means & Berle, وهما عالمان من جامعة هارفارد كانا أول من ناديا بفصل ملكية الشركات عن القائمين على إدارتها عام 1932.
حتى ذلك التاريخ كانت كل الشركات الكبرى في الولايات المتحدة شركات عائلية أو شركات مؤسسة بواسطة الحكومة. العالم كان في بداية الثورة الصناعية وما رافقها من عدم وضوح الرؤية حيال المخاطر الاستثمارية وتوافر المعلومات، ورافق هذه الفترة بعض المحفزات مثل الارتفاع المتوقع للعوائد وارتفاع المخزون. كل ذلك أسهم في حدوث الانهيار الأول في تاريخ أسواق المال الأمريكية والبريطانية عام 1856. بقية دول العالم لم تكن تملك أسواقا متطورة بالمستوى نفسه الذي تملكه هاتان الدولتان، فكان تدهور الوضع في هاتين السوقين يؤثر سلبا في بقية اقتصادات دول العالم.
منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا نستطيع القول إن تصرفات المستثمرين لم تتغير كثيرا خلال فترة تضخم أسعار الأصول, فالربح السريع دائما ما يغري هواة الحصول على الثروة بأسرع وأقصر الطرق أو من يوصمون بـ hit and run. عندما تصل السوق إلى مرحلة الخطر فتبدأ فضائح الخسارة في الظهور مع تزامن الخسائر, خصوصا لصغار المستثمرين أو الطامعين في الثراء السريع.
في عام 1873 رصد المؤرخ الألماني Heinrich von Treitschke تهور بعض المستثمرين وسعيهم خلف وهم الثراء السريع ووصف فعلهم بالحماقة اللامحدودة. لذلك نرى أن المحفزات للدخول في السوق لم تتغير على مدى 150 عاما. فأغلبية الأصول مبالغ في تسعيرها، وكل شخص يتمنى أن يأتيه سريعا من هو أحمق منه ليبيعه هذه الأصول بسعر أعلى. وعندما تصل الأسعار إلى حدود لا تقبل الارتفاع، تنفجر الفقاعة السعرية ويذهب ضحيتها من وصل متأخرا إلى هذه الحفلة، وهم عادة صغار المستثمرين الذين تغريهم ارتفاعات الأسواق للدخول من دون تخطيط.
كذلك فإن ردة الفعل الحكومية لم يطلها التغيير على مدى الـ 150 عاما الماضية، التي تقوم على معاقبة بعض الأشخاص الذين تثبت إدانتهم أو كما يوصف Punish the bad apples in the basket بهدف إعادة الثقة للمستثمرين وإصدار القوانين الجديدة. الانهيار في أسواق المال في عام 1873 كان بسبب ضعف المراجعة الخارجية للشركات، كما أن الانهيار الذي حدث في عام 1929 كان بسبب ضعف الإشراف على الأسواق المالية من الجهات المشرعة لتلك الأسواق. لذلك رأى مؤلفا الكتاب أن ردة الفعل لم تختلف مع انهيار شركة dot.com. حتى إن كانت هذه الجريمة التي تسببت في هذا الفشل معقدة ومن الصعب الكشف عنها. لذلك فأكثر ما يشغل بال المتخصصين هو تجنب حدوث مثل هذه الفقاعات، أكثر من إصدار التشريعات والقوانين التي قد تعقد الأمور. وهذا أدى إلى التوصية بأن تلعب البنوك المركزية دورا محوريا في محاربة تضخم أسعار الأصول مثلما تحارب التضخم في أسعار السلع والخدمات. وهذا أيضا جعل الأعين تتفتق على الدور الذي تلعبه بنوك الاستثمار التي تغذي مثل هذه الفقاعات السعرية. وفي جانب آخر من الأهمية، فعند الحاجة إلى إصدار قوانين جديدة، ما الطريقة المثلى لإدراج هذه القوانين في حيز التطبيق وتحفيز الشركات للعمل بها؟
كما ذكر سلفا، فإن السوق الأمريكية تعد من أقدم الأسواق المالية في العالم، التي تبعها عديد من الاقتصادات في حذو الفكر الاقتصادي الرأسمالي. لكن هذا لا يدل على مثالية أو نضج السوق الأمريكية، ففي عام 1970، اخترقت 11 في المائة من 1043 شركة أو تجاوزت التشريعات والقوانين المصدرة من خلال أعمال الفساد المالي والرشا وغير ذلك.
مما سبق نستطيع أن نلتمس العذر لهيئة سوق المال في المملكة، في عدم الإلزام بتطبيق نظام حوكمة الشركات, حيث إن مثل هذا النظام يحتاج إلى تضافر الجهود بين الجهات الرسمية والمستثمرين للتوعية بهذا النظام، ما يجعل الشركات تحرص على اتباعه بشكل اختياري لتلبية توجهات المستثمرين قبل التدخل من قبل الجهات الرسمية. وهذا بلا شك في حاجة إلى توعية المستثمرين الأفراد بأهمية وفوائد مثل هذا النظام، وكذلك فإن للشركات وبنوك الاستثمار الدور الكبير في توجيه الشركات العاملة في السوق لنهج أسس ومبادئ حوكمة الشركات.
وكما يظهر مما سبق، فإن دولا سبقتنا في إنشاء الأسواق المالية وتعد من الأسواق الرئيسة في العالم، إلا أنها ما زالت تعاني ضعف أسواقها وعدم عدالتها. وفي المقال القادم سيكون الحديث - بإذن الله - عن المحفزات لظهور وتطور نظام حوكمة الشركات والتطورات التاريخة في ذلك المجال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي