الولايات المتحدة وتحديات الدين العام وعجز الموازنة
حقيقة لا يختلف عليها اثنان، هي أن الزيادة الكبيرة في الدين العام الأمريكي وعجز الميزانية المتسارع يهددان، ليس فقط الاقتصاد الأمريكي، ولكن الاقتصاد العالمي برمته. فالدين العام الأمريكي يقارب الآن 13 تريليون دولار وهو ما يشكل نسبة تقترب من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. عجز الموازنة يسهم بشكل كبير في ارتفاع الدين العام عاماً بعد آخر، وآخر ميزانية تتوقع عجزاً يفوق 1.6 تريليون دولار خلال عام 2010م.
والمشكلة لا تتعلق بالولايات المتحدة فقط، ولكن هناك دول أخرى لديها عجوزات كبيرة في موازناتها مما أسهم في ارتفاع الدين العام لديها. دول الاتحاد الأوروبي التي تتبنى معايير متشددة بشأن عجوزات الموازنات، فرضت تدابير صارمة على كل من اليونان والبرتغال بهدف تخفيض عجوزات الموازنات لديها وبالتالي تخفيض الدين العام. السؤال كيف تتعامل الدول مع عجوزات الموازنات بهدف تخفيض الدين العام لديها؟
على مستوى السياسة المالية، هناك خياران أحلاهما مر، فإما أن تقوم بتخفيض الإنفاق، وما يتبع ذلك من تسريح العاملين وإما تخفيض الأجور أو تخفيض الإنفاق على قطاع الرعاية الاجتماعية، أو اللجوء إلى زيادة الضرائب، وقد تلجأ بعض الدول إلى الإثنين معاً بهدف تخفيض العجز بشكل سريع. بالطبع هناك أبعاد سياسية لكلا القرارين، حيث إن الرئيس الذي سيتخذ هذا القرار سيضمن عدم انتخابه في الجولة المقبلة، وقد يؤدي ذلك إلى اضرابات عمالية قد تفاقم الأثر الاقتصادي لذلك الإجراء. إذ إن النتيجة الطبيعية لتخفيض الإنفاق أو زيادة الضرائب ستكون زيادة في البطالة وتراجعا في النمو الاقتصادي.
أما على مستوى السياسة النقدية، فهناك خياران آخران أيضاً أحلاهما مر. الأول اتباع سياسة تضخمية لتمويل العجز Inflationary Policy، من خلال زيادة إصدار النقود، مما سيؤدي في النهاية إلى تخفيض القيمة الحقيقية لها وهذا بدوره سيؤدي إلى تخفيض القيمة الحقيقية للأجور والمستحقات التقاعدية والمستحقات الحالية للشركات والدائنين ومن ثم تخفيف الضغط على الميزانية. والخيار الآخر تخفيض سعر صرف العملة Devaluation بالنسبة للعملات المرتبطة بعملات أخرى وهو ما سيؤدي إلى تخفيض القيمة الحقيقية للديون التي على الحكومة، وهذا قد يقوض الثقة في الحكومة يجعل من الصعب عليها إصدار ديون في المستقبل.
والملاحظ أن معالجة عجز الموازنة الأمريكية تمت في الفترة الماضية بإصدار الديون، وذلك لوجود فضاء مالي يمكنها من التوسع في ذلك. لكن ببلوغ الدين العام نسبة كبيرة جداً تمثل تقريباً 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، يصعب تصور الاستمرار في هذه السياسة مستقبلاً. إذاً ستواجه الولايات المتحدة الخيارين اللذين أشرت إليهما إما معالجة العجز عن طريق أدوات السياسة المالية وإما عن طريق أدوات السياسة النقدية.
الخيار الأفضل على المستوى البعيد هو معالجة العجز باستخدام السياسة المالية عن طريق تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب. لكن في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة، فقد يقوض ذلك التعافي الاقتصادي الذي تمر به وبالتالي يدخلها ويدخل الاقتصاد العالمي في شبح الركود الاقتصادي العالمي مرة أخرى. كما أن تفاقم البطالة في سوق العمل يجعل من المستبعد توجه الولايات المتحدة لهذه السياسة لتكاليفها السياسية والاقتصادية الكبيرة.
الخيار الآخر اتباع السياسة النقدية لمعالجة مشكلة العجز المتفاقم، لكنها وحدها لن تحل المشكلة إن لم تترافق مع سياسة إنفاق حكومي مسؤولة لإعادة العجز ومستوى الدين العام إلى مستويات مقبولة. وبحكم أن سعر صرف الدولار معوم فلا يوجد منطق من استخدام تخفيض سعر الصرف، لذلك فإن الوسيلة المعتادة هي زيادة الدين العام (سياسة مالية) قد تؤدي إلى تراجع معدلات النمو على المديين المتوسط والطويل بسبب زيادة أعباء خدمة هذا الدين على الموازنة، مما سيؤدي إلى مزاحمة الإنفاق على البرامج الأخرى التي تسهم عادة في تحفيز النمو الاقتصادي.
الخيار الأخير هو استخدام سياسة تضخمية للحد من العجز من خلال زيادة المعروض من النقود، وهو ما قد يؤدي إلى آثار عكسية في النمو على المديين المتوسط والبعيد أيضاً من خلال تأثيره في القدرات الاستهلاكية للأفراد، لكن في الوقت نفسه قد يمثل هذا الحل خياراً أفضل بالنسبة للحكومة الحالية لأن نتائجه لا تظهر سريعاً. وأخيراً هذه المرحلة تمثل أكبر تحد اقتصادي للولايات المتحدة قد يؤدي إلى تغيرات كبيرة في موازين القوى الاقتصادية العالمية، مما يجعل من الصعوبة بمكان التفكير في الشكل الجديد الذي سيتخذه الاقتصاد العالمي ومن سيتبوأ مكان الصدارة فيه.