رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


مشروع نظام الشركات والتجاهل الغريب..!

لقد حظي الاستثمار في الشركات بعناية الشارع, ولو استعرضنا صحيح البخاري فقط لوجدنا فيه بالمكرر سبعة وعشرين حديثاً مرفوعاً إلى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ كما في كتاب الشركة من صحيح البخاري, ودون المكرر منها أربعة عشر حديثاً, وإن كان بعض هذه الأحاديث ذكرت في كتاب الشركة نظراً إلى المعنى اللغوي, أو نظراً للاشتراك في الملك لا العقد, هذا غير ما جاء في كتب السنن الأخرى, ولنستعرض بعض الأحاديث لنقف على مدى عناية الشارع بهذا النوع من الاستثمار:
1- ما أخرجه الإمام البخاري ــ رحمه الله ــ عن أبي المنهال قال: اشتريت أنا وشريك لي شيئاً يداً بيد ونسيئة, فجاءنا البراء بن عازب, فسألناه, فقال: (فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم, وسألنا النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن ذلك, فقال: ما كان يداً بيد فخذوه, وما كان نسيئة فذروه) وفي لفظ للبخاري عن البراء بن عازب, وزيد بن أرقم ــ رضي الله عنهما ــ (أنهما كانا شريكين, فاشتريا فضة بنقد ونسيئة, فبلغ ذلك رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه, وما كان نسيئة فردوه) وفيه إقراره ــ صلى الله عليه وسلم ــ البراء وزيداً على تلك المشاركة, وترجم البخاري على هذا الحديث, بقوله: «باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف».
2- إعطاؤه ــ صلى الله عليه وسلم ــ أرض خيبر لليهود ليعملوا فيها, ويزرعوها, (...على أن لهم شطر ما يخرج منها). وهو اشتراك في الدخل الخارج منها, وقد ترجم البخاري على هذا الحديث, بقوله: «باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة».
3- ما أخرجه البخاري عن جابر ــ رضي الله عنه: (أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم, فإذا وقعت الحدود, وصرفت الطرق, فلا شفعة) وترجم البخاري على هذا الحديث, بقوله: «باب الشركة في الأرضين وغيرها», ثم ساق الحديث بسند آخر, وترجم له أيضا بقوله: «باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة».
4- ما رواه أبو داود عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ مرفوعا قال: (إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين, ما لم يخن أحدهما صاحبه, فإذا خانه خرجت من بينهما) صححه الحاكم, وأعله ابن القطان, وسكت عنه أبو داود, وهذا يدل أنه صالح للاحتجاج عنده, كما قاله الشنقيطي في أضواء البيان.
5- ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي ــ صلى الله عليه وسلم: (كنت شريكي في الجاهلية, فكنت خير شريك, لا تداريني, ولا تماريني) صححه الحاكم, وفيه إقرار النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ له على كونه كان شريكا له.
فهذه الأحاديث ترسم الاهتمام الكبير للشارع بالاستثمار في مجال الشركات.
وقد أشار إلى الله تعالى إلى الشراكة الواقعة بين الأفراد, وأقر هذه العلاقة سواء كانت علاقة ملك أو استثمار ــ طبعا بالضوابط الشرعية ــ وأضاف بأن واقع المشاركات أنه يخالطها البغي والظلم, وأن العدالة بين الشركاء محدودة قياساً على ما يقع من ظلم بينهم, كما قال تعالى: (وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم)، وقد أثبت واقعنا المعاصر أهمية هذا النوع من الاستثمار, فقد وضعت عديد من الدول نظماً خاصة بالشركات, ولا يزال الناتج المحلي والقومي للدول يتكئ بشكل كبير على ما تضيفه الشركات من ناتج ربحي, واقتصاد حقيقي.
ولا ريب أن العلماء أجمعوا في الجملة على مشروعية الشركة.
وبتأمل الحكمة من مشروعية الشركة, نجد أنها شرعت لمقاصد كثيرة, منها:
1- إنها مظهر من مظاهر التعاون والتكاتف في المجتمع, سواء بين الأباعد أو الأقارب, ولا تزال الشركات العائلة تملك حصة الأسد من نسبة الشركات الموجودة في بلادنا, وأحيانا يكون للشركات أثر سلبي في العلاقات العائلية وغيرها متى ضعف الوازع الديني, وغلب حب المال.
2- إن بعض الأفراد قد يتوافر في يده سيولة مادية ــ بسبب إرث أو غيره - ولكنه لا يحسن التصرف في المال, وآخر لا يجد السيولة, ولكنه يحسن المتاجرة في المال, فجاءت الشريعة بمشروعية الشركة؛ ليكمل كل منهما الآخر, كما هو الحال في شركة المضاربة.
3- إن بعض المشروعات الكبرى تحتاج إلى سيولة مالية كبيرة, وغالباً ما يمكن جمع المال إلا من خلال هذا النوع من الشركات, لتكون رؤوس الأموال تلك قادرة على المضي في طريق الاستثمار بخطى ثابتة, فلا يعوقها العجز المادي دون اختيار المشاريع الكبرى, ذات الجدوى الاقتصادية.
4- إن في المشروعات تطبيقاً للاستثمار الحقيقي, وفيه ما يغني عن النظم الربوية التي اخترعها أكلة الربا, والتي يولد فيها النقد, مما يؤدي لوضع الأمة في حرب مع الله ورسوله عياذا بالله, وفي الاستثمار الحقيقي مخرج من هذه الكارثة الاستثمارية.
ولهذه الأهمية للشركات, لذا ينبغي تطوير نظام الشركات الحالي الصادر عام (1385هـ), ومعالجة الثغرات الواقعة فيه, والتي لا يخلو منها نظام بشري, علماً بأن مشروع النظام للشركات الذي يراجع منذ أربع سنين ولم يصدر حتى الآن, لم يحظ بمراجعة كل المعنيين بهذا النظام, فمثلا استشير في مشروع هذا النظام عدد من رجال المال, ولم يستشر فيه رجال القضاء في ديوان المظالم - كما حدثني بذلك أحد المسؤولين في الديوان ــ وهو الجهة القضائية ذات الاختصاص في الفصل بين الخصومات الواقعة بين الشركات, وهو تجاهل غريب للمتخصصين, والعارفين بتفاصيله ومشكلاته, وهو تساؤل نحيله إلى المسؤولين عن تشريع هذا النظام, نأمل أن يجيبوا عنه بكل وضوح وشفافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي