التعليم العالي وسلك القضاء والتنسيق المفترض

في لقاء مع فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء أجرته جريدة «الجزيرة» تطرق لمجموعة من القضايا والأمور التي تهم مجلس القضاء الأعلى لأنها في الأساس تهم المواطنين والمقيمين, نظراً لما يمثله القضاء في أي بلد من أهمية في حياة الناس لمعالجة قضاياهم وشؤونهم التي لا بد لهم من الحسم فيها من قبل فرد أو هيئة متخصصة شعارها العدل.
وفي المقابلة المذكورة تناول فضيلة الشيخ جملة قضايا منها نقص القضاة وتسهيل الإجراءات الإدارية في المحاكم, وذلك بالأخذ بالنظم الإدارية الحاسوبية, وتنقل القضاة, وتنوع الأحكام إزاء القضايا المتنوعة. ذلك أن هذه الأمور وغيرها محل اهتمام مجلس القضاء الأعلى ومحل اهتمام خادم الحرمين الشريفين الذي رصد لتطوير القضاء بضعة مليارات في المشروع المسمى مشروع الملك عبد الله لتطوير القضاء, وذلك تفادياً لتراكم القضايا في المحاكم, وتسهيلاً على الناس, وحفاظاً على حقوقهم من الضياع. وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من المستثمرين والشركات يهمهم في المقام الأول جودة ووضوح النظم القضائية في البلد الذي ترغب العمل فيه, بل إن بعضهم يشترط أن يكون التقاضي في بلده وعبر نظامه القضائي في حال الاختلاف على أي من الأمور في المجال أو الموضوع المراد الاستثمار فيه, وذلك لوضوح وتحديد الإجراءات القضائية.
ونظراً لأن التعليم العالي إحدى وظائفه الرئيسية خدمة المجتمع وتزويد سوق العمل بما تحتاج إليه من المتخصصين في المجالات كافة, ومنها مجال القضاء, لذا لا بد من أن نسأل ما سبب حقيقة نقص القضاة في المحاكم خاصة أن كليات الشريعة من أوائل مؤسسات التعليم العالي التي افتتحت, ومضت عليها عقود عدة؟
نقص القضاة له أسباب عدة منها التوسع السريع في افتتاح المحاكم في مناطق ومحافظات المملكة, ومنها الزيادة السكانية الكبيرة سواء من المواطنين أو الوافدين, كما أن تنوع الأنشطة الاقتصادية والتجارية, وكثرة الأعمال التي شهدها الوطن, والمشاريع أحدثت زيادة في عدد القضايا, والمشكلات والجنايات التي لا بد من عرضها على القضاء ليصدر أحكامه بشأنها ويفصل بين المتقاضين.
كليات الشريعة كانت محدودة العدد, وأول كلية شريعة افتتحت في مكة المكرمة, ثم تلتها كلية الشريعة في الرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حتى توالى افتتاح كليات الشريعة في معظم مناطق المملكة, والتحق بهذه الكليات عشرات الآلاف من الطلاب لكن لم نصل إلى حد الاكتفاء الذاتي من القضاة بل إن النقص واضح في المحاكم, ما ترتب عليه التأخر في الحسم في القضايا, وتأخرها لأشهر وسنين. في ظني أن كليات الشريعة يلتحق بها كثير من الطلاب الذين لا يرغبون العمل في سلك القضاء لكن التحاقهم جاء نتيجة الحاجة إلى الوظيفة خارج سلك القضاء كالتدريس أو العمل الإداري, أو أي عمل آخر, ولذا فكليات الشريعة معنية في الوقت الراهن بالتدقيق في اختيار الطلاب الراغبين فيها, والتثبت من رغبتهم في العمل قضاة بدلاً من أن تقبل كليات الشريعة طلاباً يفتقدون رغبة العمل في القضاء من البداية, وإضافة إلى ما سبق العمل على إيجاد الحوافز المادية والمعنوية المشجعة على الالتحاق بسلك القضاء نظراً للمسؤولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم.
إن الجامعات السعودية مطالبة بأن تسعى جاهدة إلى سد حاجة ميدان القضاء بالقضاة, وهذا لا يتحقق إلا بالتوسع في كليات الشريعة, والتوسع في قبول الطلاب الراغبين في العمل قضاة, وحتى تسهم الجامعات في تحقيق رغبة الملك عبد الله بن عبد العزيز في تطوير القضاء يلزم الجامعات الكبيرة ذات الميزانيات الضخمة أن تولي هذا المجال اهتمامها, إذ لا يمكن معرفة سبب عدم وجود كلية شريعة في جامعة الملك سعود, ونحن نشهد الحاجة الماسة إلى القضاة, خاصة أنه يوجد فيها قسم الثقافة الإسلامية, الذي يضم ما يزيد على 100 عضو هيئة تدريس في التخصصات الشرعية كافة عدا المبتعثين للدراسات العليا. إن خبرة القسم الممتدة لعقود وأساتذته وعلماءه وبرامجه في البكالوريوس, والدراسات العليا تؤهل القسم ليتحول إلى كلية مستقلة تخدم سلك القضاء والمجالات كافة ذات العلاقة, إضافة إلى تأهيل المعلمين, وذلك بالتنسيق مع الكليات الأخرى مثل كلية التربية وكلية الأنظمة والسياسة وكلية إدارة الأعمال.
إن نجاح أي مؤسسة تعليمية مرهون بوفائها بخدمة مجتمعها, وتحقيق متطلباته, وذلك بالمتخصصين الذين يحتاج إليهم المجتمع, ليس على المستوى الكمي فقط بل الكيفي أيضا, وهذا هو الأهم, ولذا فالجامعات معنية بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى لرسم سياسة تعليم خاصة بكليات الشريعة تسهم في تحقيق متطلبات واحتياجات هذا القطاع. إن مناهج كليات الشريعة في حاجة إلى أن يدخل فيها ما يحتاج إليه القاضي من وعي بشأن القضايا المستجدة حتى يكون قادراً على الفصل فيها, لذا فمجلس القضاء الأعلى قد يكون له إسهام في هذا المجال, إضافة إلى القضاة والعاملين في السلك القضائي. كما أن كلياتها وأقسامها مطالبة بالتنسيق فيما بينها لتحقيق التكامل, ولا سيما أن القضايا تعددت وتنوعت بتنوع المجالات الحياتية, ولم تعد قضايا الناس محصورة في خلاف على ممرات السيول أو المواريث وما شاكلها. تغيرت الحياة, وهذا التغير جلب معه نوعا جديدا من المشكلات والقضايا التي يفترض أن يؤهل القضاة ليكونوا على أعلى مستوى من التأهيل والإدراك لقضايا الحياة المعاصرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي