رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الشورى: الانتفاضة الرصينة وتداخل الأذرعة

جميلة قبة الشورى، ولعل سر جمالها بهاء وألوان تستدعي خيوط الأمل لوطن يافع. لطالما تأملت تلك القبة والزخارف التي تحيط بحوافها، خصوصاً عندما تتعقد المواضيع أو تتداخل المداخلات ويتطاير شرر الإجابات، وأحياناً برودة التنظير المنسلخ عن بعد الزمن فينزلف المتابع إلى دهاليز حلقات الدرس وليس دهاليز القرار! ثم ما تلبث طروحات الأعضاء أن تعيد الكرة.. وهكذا. وهكذا هو الحال في عناصر الحكم والسلطة: فمهما كانت تلك العناصر منسجمة تبقى وجهات النظر متفاوتة، ولا تتسق إلا بالنقاش أولاً وبعد ذلك بالتفاوض والاستيعاب.
مجلس الشورى السعودي مؤسسة مؤثرة لا شك، قد نختلف في قوة ذلك التأثير ومداه، لكن قد لا نختلف في أنه إلى تعاظم مع مرور الوقت، وذلك لاعتبارات ليس أقلها أن هذه الإرادة المشتركة للحاكم والمحكوم. وفوق ذلك، وجود الحاجة الماسة للاستفادة والاستزادة مما تزخر به البلاد ليس فقط من فرص وآراء وتجارب، بل كذلك من الرغبة الكامنة في عقل ووجدان مؤسسة الحكم في تطوير آلية اتخاذ القرار وتداول السلطة. وقد لا يعي غير المتابع أن ما مر على المملكة العربية السعودية خلال السنوات العشر الماضية لا يمكن أن يصنف بأقل من «انتفاضة رصينة» تتجاوز السطح لتدخل بتؤدة في العمق دونما استفزاز لمرتكزات الأمن والسلم الاجتماعي. وقد نختلف في سرعة أو بطء وتيرة تجاوز السطح، لكننا قد لا نختلف أن تلك الانتفاضة الرصينة آخاذة طريقها للعمق. ومع ذلك، لابد من القول أن الانتفاضة الرصينة تلك ما زالت في طور العطاء ولم تصل إلى مبتغاها بعد من التحسين المستمر.
وحتى لا يكون التناول تنظيرياً، خذ أي جانب من جوانب الحياة وستجد تغيراً حدث، وستجد أن ذلك التغير كان بفعل تلك الانتفاضة الرصينة. لقد حدث ذلك في الضمان الاجتماعي والشؤون الاجتماعية وفي تطوير الموارد البشرية وابتعاث الطلاب بعد أن ضاق الجميع ذرعاً بقدرة الجامعات المحلية لاستيعاب الأعداد والرغبات، وفي تطوير القضاء تطويراً هيكلياً وتنظيمياً، وفي وضع موضوع البطالة والتوظيف على بدايات طريق الإصلاح.. وخلال السنوات العشر تلك استحدثت وحدثت الغالبية العظمى من الأنظمة المعمول بها في السعودية.
ولعل من الإنصاف القول إن «الانتفاضة الرصينة» تهدف إلى تحسين الأداء لجميع المكونات، انطلاقاُ من أن الدعة والرتابة لن تأخذانا بعيداً في عالم تتطاحن فيه الدول الكبرى لاقتطاع حصص أكبر من الأسواق والتأثير، وتتنافس فيه تلك القوى فيما بينها وبين القوى الإقليمية للتأثير في منطقتنا الزاخرة بالثروات والصراعات والتطلعات. ولذا، نجد أن كلمة منافسة وتنافسية تأخذ حيزاً يزداد اتساعاً، فقد صدر نظام لحماية المنافسة وشكل مجلس من أجل ذلك وأطلقت الحكومة استراتيجية توظيف تقوم على المنافسة. وهكذا، فإن المنافسة في الأساس تقوم على التحسين المستمر للأداء، وهذا يعني ضمناً عدم الرضا عن الأداء ما دام دون أداء المنافسين. وهذا بالتأكيد أمر يحمل نفساً إيجابياً قوياً، فالرضا عن الذات يجب أن يأتي نتيجة مقارنة مع مؤشرات محددة، وهذه فكرة قديمة ومستقرة في الفكر العربي، فقد قال الشاعر قديماً: على قدر أهل العزم تأتي العزائم. وعليه فإن الانتفاضة الرصينة استبدلت (أو هي في سبيلها لاستبدال) ما استقر من «رضا عن الذات» إلى «تحدي الذات». وبالتأكيد، فإن تحدي الذات لا ينطلق من رغبة في تعذيب الذات وقهرها، بل من منطلق أن تقدمنا كأمة لا يمكن أن يكون إلا بمفهوم يطوي المسافات فيدفعنا لتجاوز الأمم. وتجاوز الأمم يقاس ولا يقدر، يقاس بمؤشرات أداء كمية، تحسب حساباً، وتصدر بها مجلدات وتحويها قواعد بيانات منظمات دولية تحصي على الدول أنفاسها. وتتناول مؤشرات الأداء الجوانب الاجتماعية والحضرية والاقتصادية المالية وغير ذلك كثير.
نعود لمؤسسة الشورى ودورها في «انتفاضتنا الرصينة»، حيث التغيير الدؤوب من أجل الارتقاء بمعطيات التنمية. ولعل الآلة الأهم لذلك التغيير هي مؤسسة الشورى. لقد «هندس» عمل المجلس ليتطور مع مرور الأيام، فنظامه ليس جامداً، ولا عدد أعضائه، ولا لجانه، ولا آليات العمل فيه. كما أن مجلس الشورى -بطبيعة هيكلة العضوية فيه- ليس قائماً على تقاطعات وتحازبات يرتكز فيه إلى «التكتيك» قصير المدى، بل إلى بناء توجهات استراتيجية. ولست ضد أن يكون للمجلس توجهات «تكتيكية»، لكن ليس في المجلس تيارات تتعارض وتتجاذب وتتفاوض وتتقاسم وتتفق! بل هناك وجهات نظر تطرح وتناقش لتشكل مبادرات، والعديد العديد من تلك المبادرات أثرت بصورة واضحة. سأعطي أمثلة: لطالما تناول مجلس الشورى أهمية زيادة الإنفاق الاستثماري للدولة، وها نحن نراه يصل لمستويات قياسية عاماً بعد عام حتى رصد له في العام المالي الحاي 260 مليار ريال، ولطالما تناول المجلس عبر لجانه المختصة قضية تملك المواطنين للمساكن وأهمية إصدار نظام للرهن العقاري ونظام للتمويل العقاري، وأصبح هذا الأمر قضية ارتكازية من حيث إنشاء الهيئة العامة للاسكان وقرب صدور منظومة نظم تتناول الرهن وآلياته وهيكلته بما في ذلك القضايا المحورية مثل التمويل والعلاقة بين الراهن والمرتهن والعين المرهونة والعقود ذات الصلة والمؤسسات المنوط بها مراقبة وتنظيم السوق العقارية. ولطالما تناول الشورى قضايا التعليم بمراحله وعناصره عاماً بعد عام، وأسهم في صياغة الحلول مما نشاهده الآن من نقلة نوعية في اتساع أفق فرص التعليم محلياً والابتعاث خارجياً.
وهكذا، يمكن الجدل أن مجلس الشورى أعيد تأسيسه ووسعت عضويته ليسهم مساهمة متعاظمة في تنمية البلاد وتطورها عبر التمعن في التوجهات الاستراتيجية للبلاد من النواحي كافة، والسعي دائماً لإعادة تقييم الأداء الفعلي، فالشورى لا يحكم على الجهات الحكومية بما تقول إنها ستنجزه بل من خلال ما أنجزته فعلاً. أي، يتعامل المجلس مع حقائق الواقع وليس توقعات الخطط، إذ لطالما وجدت فجوات بين المخطط له والمتحقق. ويمكن بذل كل الوقت لتناول تلك الفجوة، في حين أن المجلس يبذل وقتاً في بحث أسباب تلك الفجوة بل وفي نقد الخطة من الأساس!
في هذا اليوم الذي يلقي فيه الملك خطابه السنوي في مجلس الشورى، يمكن القول - من خلال الممارسة - أن مساهمة الشورى ساهمت في إحداث نقلة نوعية هادئة الوقع لكنها واضحة المعالم. وكما أن انتفاضتنا الرصينة ولدت فرصاً، فما زال هناك الكثير مما يمكن أن ينجز. وهنا يأتي السؤال: مسؤولية من متابعة ما ينجز؟ هل هي مسؤولية الشورى؟ وإن كانت الإجابة بنعم فما الآلية؟ إجمالاً، الأدوار مقسمة بين الذراع التنفيذي للدولة (الحكومة) والذراع التنظيمي للدولة (الشورى)، لكن ثمة تداخلا بين الذراعين، والتداخل هو أن ذراع الحكومة تمارس بعض المهام التنظيمية، وهذا تداخل من المهم أن يزول، بأن يصبح «الشورى» مهيمناً على السلطة التنظيمية، وأن تكتفي الحكومة بدورها التنفيذي.. وهكذا نقطع الميل الأصعب في رحلة فصل السلطات. إذ يمكن الجدل –من خلال الممارسة- أن عدم اكتمال عقد السلطة التنظيمية في «يد» الشورى يجعل تقدم المسيرة بطيء الوقع، ذلك أن التوازن بين السلطتين أمر ضروري لكي تبذلا جهدا مضاعفاً للتعاون تعاوناً ينسجم مع تطلعات مؤسسة الحكم عندما أسست مجلس الشورى في الأصل ثم عندما حدثت ذلك المجلس لاحقاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي