رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


معجزة على نهر هان

لم يكن من السهل على دولة مثل كوريا الجنوبية خرجت في عام 1945م من احتلال ياباني دام أكثر من 35 عاماً، ثم دخلت في حرب مع كوريا الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفياتي آنذاك ما بين عامي 1950 و1953م أن تتقدم في مسيرة التنمية الاقتصادية، دون توافر تناغم بين الإرادة السياسية والشعبية لتحقيق موقع مرموق لكوريا على خريطة الاقتصاد العالمي. فقد اتخذ كل من شطري كوريا الشمالي الغني بالموارد الطبيعية، والجنوبي المعتمد على زراعة الأرز قرارين مختلفين لتحقيق هدفين مختلفين ومتناقضين بالكامل. فالأول محوره الفرد (الدكتاتور) والثاني محوره الشعب (الإنسان والمواطن)، والنتائج تثبت أن التنمية التي محورها الشعب والإنسان هي التي تنجح دائماً في مقابل التنمية المرتكزة على تحقيق أهداف الفرد القائد.
تصنف كوريا الآن في الترتيب الـ 13 على مستوى العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي البالغ 1.3 تريليون دولار، والثامن على مستوى العالم من حيث الصادرات، والعاشر من حيث الواردات، والثالث في صناعة تقنية المعلومات في العالم، وأفضل دولة في العالم من حيث مستوى المعرفة العلمية والرياضية. إضافة إلى ذلك، كوريا الجنوبية عضو في منظمة التجارة العالمية WTO، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECDمنذ عام 1996م، وعضو في منتدى آسيا والمحيط الهادي الاقتصادي APEC، وترأس مجموعة العشرين حالياً. كما تصنف كوريا الآن على أنها دول متقدمة بمقاييس صندوق النقد والبنك الدوليين، وتتميز بأنها من أعلى الدول من حيث مستوى الدخل الفردي في العالم حيث يبلغ قرابة 24 ألف دولار سنوياً.
في المقابل لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لجارتها كوريا الشمالية 26 مليار دولار، كما أن متوسط دخل الفرد فيها لا يتعدى 1800 دولار سنوياً، كما لم تتجاوز صادراتها 1.7 مليار دولار، وببساطة وبكل المقاييس هو اقتصاد يقبع في آخر قائمة التصنيف العالمي لاقتصادات العالم. والسؤال ما الذي جعل كوريا الجنوبية تتقدم في مسار التنمية لتصبح من أكثر اقتصادات العالم انفتاحاً ونمواً وتقدماً، بينما جارتها التي تشاركها الكثير من الإرث الثقافي والجغرافي والغنية بالموارد الطبيعية تصنف على أنها من أكثر الاقتصادات تخلفاً وأن تكون شعوبها من أكثر الشعوب معاناة وفقراً في العالم. هناك إجابة على هذا التساؤل نجدها في أدبيات التنمية الاقتصادية التي تحاول تفسير التفاوت في التنمية سواءً من حيث المستوى أو من حيث السرعة في تحقيق أهداف التنمية.
فالتنمية لها أسس كثيرة من أهمها النظام السياسي القائم على المشاركة في اتخاذ القرار، كما يشير إلى ذلك أمارتيا سنق (الاقتصادي المخضرم الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد)، وعوامل أخرى تتبع ذلك كتطور المؤسسات في الدولة، الاندماج مع الاقتصاد العالمي، الموقع الجغرافي، النظم الأمنية والقضائية، التعليم، الموارد، وغير ذلك من العوامل التي تسهم في تحقيق أهداف التنمية. المهم أن النظام القائم على المشاركة في اتخاذ القرار يسهم بشكل كبير في رسم الأهداف العامة ووسائل واستراتيجيات تنفيذها، ثم متابعة هذا التنفيذ والمحاسبة في حال قصوره. وإطار التنمية الاقتصادية التي يجب أن تعمل فيه لتحقق أهدافها هو اقتصاد السوق الذي يسهم في توفير الحوافز اللازمة لتشجيع الإبداع والابتكار للمنافسة مع الآخرين في ظل إطار قانوني يضع هذه المنافسة في إطارها الإنساني الذي لا يخل بعملية التنمية الاقتصادية الشاملة.
يشير البروفيسور شانج سي موون أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة ألاباما إلى أنه لم يكن من السهل على كوريا الجنوبية التي خرجت من احتلال ياباني يسيطر على نصف صناعتها تقريباً وعجز ميزانية يبلغ 50 في المائة ثم دخلت مرة أخرى في حرب مع كوريا الجنوبية أن تصل إلى ما وصلت إليه الآن إلا بتوفر إرادة سياسية تجاوزت كل إرث الماضي، وركزت على التعليم لرفع مهارات أبنائها، ثم بنت جيلا كاملا من التكنوقراط الذين أداروا عجلة التنمية بكل اقتدار في ظل نظام سياسي قائم على المشاركة وتداول السلطة. فقد استطاع الكوريون تجاوز ما خلفه الماضي في تحسين علاقاتهم مع اليابانيين والاستفادة من عجلة النمو اليابانية في بناء صناعات عملاقة مثل “سامسونج'' و''دايو'' و''هوينداي'' و''إل جي''، وغيرها من الإمبراطوريات التي تغزو الآن جميع أسواق العالم، وهم منفتحون حالياً على التجارة مع كوريا الشمالية على الرغم من العداء الذي تناصبهم إياه، في سعيهم إلى توفير كل ما من شأنه تحقيق البيئة الملائمة للتنمية الاقتصادية.
يؤكد البروفيسور شانج أن التعليم بالذات كان مفتاحاً رئيسياً للتنمية في كوريا, حيث إن الإرث التاريخي الكونفوشوسي في كوريا يرسخ أهمية التعليم في أذهان الآباء الذين يضحون بالكثير من أجل إلحاق أبنائهم بأفضل المدارس. بل إن الكثير من الآباء لا يترددون في إرسال أبنائهم في مراحل عمرية صغيرة جداً لتلقي التعليم في أفضل المدارس العالمية إيماناً منهم بأهمية ذلك في تشكيل حياتهم وطريقة تفكيرهم في المستقبل. التنمية في كوريا أو معجزة نهر هان الذي يخترق العاصمة سيئول، تجربة تستحق الدراسة بكل جوانبها، وهي تجربة قريبة جداً من المملكة في كثير من خصائصها وبداياتها, ويمكن أن نتعلم الكثير منها لتحقيق التنمية التي تتطلع إليها القيادة والمواطن في المملكة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي