الخير في تعلم القرآن وتعليمه لا مجرد حفظه وتحفيظه
أ - روى البخاري في صحيحه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته قال: ''خيركم من تعلم القرآن وعلمه''، وفي رواية له: ''إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلّمه''.
وفَقِهَ أصحابه - رضي الله عنهم - شرع الله وسنة رسوله فكانوا لا يتعجلون مجرد التلاوة دون تدبر، بل كانوا لا يجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهن والعمل بهن (رواه الطبري في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه). ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ختم القرآن في أقل من سبع (عند الشيخين) وثلاث (عند غيرهما) لأنه لن يتحقق تدبره وفقهه.
ب ـ وأنزل الله كتابه على قلب نبيه مفرقا رحمة بعباده ونورا لهم (ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب). واستعجل المشركون التنزيل جملة واحدة فرد الله كيدهم: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) أي: بيناه تبيينا (قتادة) بتنزيله شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة (المحلي).
واتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع ربه فرتل القرآن ترتيلا، يقف على رؤوس الآي (أبو داود وغيره) ولم يرو عنه الجمع بين آيتين قط. وكان (فيما رواه مسلم في صحيحه) يقرأ القرآن (مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ)، ولا يصح قصر ذلك على صلاة الليل بل هو عام في الصلاة وفي غيرها، إذ لم يرد مُخَصِّص، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ''آمين'' بعد قراءة الفاتحة (البخاري) ويأمر المأمومين بقولها (متفق عليه)، وكان إذا قرأ (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) قال: ''سبحانك فبلى'' وإذا قرأ: (سبح اسم ربك الأعلى) قال: ''سبحان ربي الأعلى''، قال المحدث الألباني في (صفة صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم): (وهو يشمل القراءة في الصلاة وخارجها والنافلة والفريضة، وقد رواه ابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري والمغيرة أنهما كانا يقولان ذلك في الفريضة ورواه عن عمر وعلي إطلاقا). وكان - صلى الله عليه وسلم: (يمد قراءته مدا، يمد ببسم الله، ويمد: بالرحمن، ويمد: بالرحيم)، (البخاري). وكان يقرأ قراءة (مفسرة حرفا حرفا) أحمد وأبو داود.
ج - وروى البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ''سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم'' واللفظ لمسلم.
وفي رواية: ''لا يجاوز تراقيهم'' وفي رواية: ''ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم'' من صحيح مسلم.
فمجرد التلاوة والحفظ دون تدبّر (وهو أكبر همّ الحفاظ والمحفِّظين اليوم) مخالف لشرع الله ولسنة رسوله ولسبيل المؤمنين القدوة، لجأ إليه الأعاجم بمسوغ العجمة، وتبعهم العرب في القرن الأخير دون مسوغ.
د - وكان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتعجلون حفظ القرآن (وهو نافلة) دون تدبره (وهو فرض عين)، بل ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات ولم يحفظ القرآن من الصحابة غير أربعة على اختلاف في أسماء اثنين منهم، وبمجموع الروايات لا يكاد الحفّاظ من الصحابة يتجاوز عددهم العشرة، ووصف غيرهم بالقراء لا يعني حفظه كله.
ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من قوله: (إنا صعب علينا حفظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به) الجامع لأحكام القرآن 1/75. ومثله عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - من قوله: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن) الجامع لأحكام القرآن 1/76.
هـ - وكانوا يحذرون مما آل إليه الحال اليوم في جميع بلاد المسلمين عربا وعجما، فقد أمر عمر - رضي الله عنه – عامله في العراق أن يفرض للحفّاظ في الديوان، فلما بلغه أن سبعمائة حفظوا القرآن قال: (إني لأخشى أن يسرعوا إلى القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين) وكتب إلى عامله ألا يعطيهم شيئا (عن مالك في العتبية).
وكانوا يتعلمون الإيمان قبل القرآن ثم يتعلمون القرآن (صحيح ابن ماجة). و(تنزل السورة فيتعلمون حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها) بيان مشكل الآثار للطحاوي 4/44 عن ابن عمر - رضي الله عنهما.
حتى لقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/76 ـ دار الكتاب العربي بيروت).
و-ـ قال الحسن البصري - رحمه الله: (نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا) مفتاح دار السعادة لابن القيم ج 1 ص 187 مكتبة الرياض الحديثة.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير قول الله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني): (ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني) بدائع التفسير 1/300.
وذكر الشوكاني - رحمه الله - من تفسيرها: (لا علم لهم إلا مجرد التلاوة دون فهم وتدبر) فتح القدير 1/104.
وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قول الله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة أولئك يؤمنون به): قال ابن مسعود - رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله)، وعن عمر - رضي الله عنه: (هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها).
ولم يفسرها أحد من الفقهاء في الدين بالتجويد ولا بالحفظ مجردا عن التدبر. وقال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير قول الله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا): (هجر القرآن أنواع)، وذكر منها: (هجر تدبره وتفهمه ومعرفة مراد الله منه) بدائع التفسير.
وقال ابن كثير: (وترك تدبره وتفهمه من هجرانه): مهذب دار السلام 678.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير قول الله تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى): (وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها.. فتلاوة اللفظ جزء من مسمى التلاوة المطلقة وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع.. والمقصود التلاوة الحقيقية وهي تلاوة المعنى واتباعه.. وتلاوة المعنى أشرف من تلاوة اللفظ، وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة) مفتاح دار السعادة ج 1 ص42 مكتبة الرياض الحديثة.
وقال ابن القيم - رحمه الله: (فقراءه آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وحلاوة القرآن)، وروي عن أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: (لئن أقرأ سورة من القرآن في ليلة وأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كما تقرأ) 1/187.
وقال ابن تيمية - رحمه الله: (والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين) مجموع الفتاوى ج 23 ص 55.
ويظهر من مجموع هذه الآثار والأقوال أن الانحراف عن شرع الله وسنة رسوله وسبيل المؤمنين بالانشغال بحفظ القرآن عن تدبره وفقه مراد الله منه ظهر في القرن الأول فتقرب من لم يجاوز القرآن تراقيهم إلى الله بالخروج على ولاة الأمر منهم بل قتل خير أولياء الله: عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ، وتقرب المحدثون منهم بالخروج على ولاة أمرهم وقتل أنفسهم وقتل نفوس حرم الله قتلها بغير حق.
واليوم تستدر عواطف المحسنين بتحفيظ القرآن أو الحديث في (60) يوما فماذا بعد؟
ز- وعادت دولة التوحيد والسنة ومنهاج النبوة في الدين والدعوة لتجديد دينه على ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فاهتم علماؤها بتعليم الأمة دينها الحق وردها إلى تدبر القرآن، ولم يهتم أحد منهم بمجرد الحفظ والتحفيظ الذي هو مبلغ علم وتعبد الجاهلين من عوام العجم ثم العرب.
وانتشرت بدعة التحفيظ المجرد عن التدبر والتفقه في الدين تحت أسماء: (مكتبات المساجد)، (دور القرآن)، (جمعيات التحفيظ) و(جمعيات المحافظة على القرآن). وركبها كثيرون، وجامعو التبرعات لأغراض شتى - أكثرهم يحسبون أنهم مهتدون ولكنهم مخالفون لشرع الله وسنة رسوله وسبيل المؤمنين في الدعوة إلى كتاب الله والعمل به.
لكن بلادنا - ولله الحمد - اختارت إنشاء مدارس باسم تحفيظ القرآن على منهاج النبوة تقدم لأبناء وبنات المسلمين العلوم الشرعية أولا، وثانيا حفظ القرآن (على مكث) بحيث يتعلم الطفل الإيمان ثم يتعلم القرآن.وفيما يتعلق بحفظ القرآن فإنه يتم في تسع سنوات (ابتدائية ومتوسطة) وتخصيص السنوات الثلاث الأخيرة (الثانوية) لمراجعة الحفظ.
واليوم من عام 1428هـ بفضل الله توجد في المملكة (حسب إحصائية تلقيتها من وزارة التربية والتعليم): (850) مدرسة للبنين و(1015) مدرسة للبنات يتعلم فيها: (124.627) طالبا وطالبة إضافة إلى حلقات التحفيظ الاختيارية التي تقدمها مدارس الوزارة الأخرى ضمن النشاط المدرسي الإضافي، ولا يقل عدد المشتركين فيها عن عدد طلاب مدارس التحفيظ الحكومية. وفي مدارس التحفيظ وحلقاته التابعة لوزارة التربية والتعليم ما يكفي لتحقيق طموح الناشئ لتعلم القرآن تدبرا وفقها ثم حفظا وهذا خير وأنفع من بدعة الحفظ المجرد من التدبر التي ابتدعها عابد باكستاني جاهل بشرع الله فتلقفها بعضنا عن عاطفة ودون إدراك لما يدور حولها من شبهات، وفي المدارس الحكومية يسهل الإشراف المباشر عليها لتجنب أو تقليل ما يجب الحذر منه من معاصي الشبهات والشهوات.
أما البدعة الجديدة: حفظ القرآن أو الحديث في (60) يوما فمجانبة للشرع والعقل.