رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


رجل للبيع

هزتني حكاية التاجر البحريني الذي راح يعرض أعضاء جسده للبيع، وهو حي يرزق لإنقاذ نفسه من الإفلاس، وغياهب السجن، وملاحقة الدائنين، ورجال الشرطة والنيابة كما جاء في صحيفة (أخبار البحرين) يوم 21/2/2010 عدد 11657 السنة الـ 35.
لقد سمعنا عن آباء وأمهات اضطروا إلى بيع أطفالهم، لأنهم لم يقدروا على إعالتهم، وسمعنا عن ضحايا أبرياء تم التغرير بهم، تحت وطأة الفقر والحاجة، للاستغناء عن كلية، أو كبد، أو قرنية.. وسمعنا عن لصوص بيع الأطفال كما حدث لأطفال هاييتي، أما أن يقف رجل بكامل قواه العقلية، على مسمع ومشهد من الملأ، ليعرض أعضاء جسده للبيع في المزاد العلني، فذلكم موقف في الدرك الأسفل من المأساة، يقهقه له الشيطان بأعلى صوته منتشيا من ركض الإنسان إلى أغلال العبودية بنفسه تحت عواء غول جشعه حينا أو غطرسة أنانيته وغروره حينا آخر أو إفراطه وتفريطه!!
لكن هذا الرجل ليس واحدا من هؤلاء، فقد جارت عليه ظروف وملابسات لا دخل له فيها إلا بمقدار، كان تاجر مفروشات لديه معارض ومصنع، لكن أحداث الشغب التي وقعت هناك قبل سنوات نجم عنها حرق معرضه فتوقف مصنعه ودارت بعدها رحى الكارثة ما إن يقف على قدميه حتى يدفع للسقوط.
حاول في صالة للأفراح فأغلقت بشكوى ساكن، فتح أخرى فحجزت المحكمة على محتوياتها وبيعت بثمن بخس كما باع بيته، وما لديه من أراض.. غير أن كمبيالات الدائنين والبنوك قذفت به في السجن، وتعرض للابتزاز حتى من المحامين.. وهكذا لم يبق أمامه سوى أن يبيع نفسه كأنه (تاجر البندقية) في مسرحية شكسبير الشهيرة بذات الاسم الذي لم يجد مخرجا حين خسر كل تجارته سوى أن يرهن رطلا من لحمه للمرابي اليهودي (شيلوك) مقابل الدين!!
لو أن هذا الرجل المأساة كان قد تبرع بكامل جسده بعد الوفاة لكان ذلك عملا في ذروة الإنسانية نتمنى أن تأتم به البشرية جمعاء، أما أن يعرض جسده للبيع وهو حي، فهذا، فوق كونه مأساة، عودة بنا إلى سوق النخاسة عن طريق خطر، لأن المشتري، في هذه الحالة، قد لا ينتظر الوفاة فربما تسول له نفسه تدبير مكيدة يتخلص بها من حياة هذا الرجل، بل قد يتآمر معه مجموعة المشترين على فعل القتلة!!
لقد فتح هذا الرجل، بسبب ترنحه تحت وطأة ضربات مأساته، ودون أن يدري، بابا لجرائم كثيرة محتملة فيما لو تمت إجازة مبدأ (الحراج) على الجسد الآدمي الحي!!
ولو نحن تجاوزنا باب المأساة، وباب المذلة، وباب الجريمة، فما تراه يكون حال أسرة هذا الرجل؟ في موقف المجتمع منها وفي نظرة الناس إليها؟ وكيف سيطيق أفرادها العيش في كنف رجل تم بيعه عضوا عضوا مقابل حفنة من المال: فالعين ذات النظرة الحانية مباعة، واليد الوادعة التي كانت تربت على الأكتاف وتداعب الوجنات الغضة مباعة، والكليتان بجوار الحضن الدافئ مباعتان. والقلب الشغوف المحب الذي كانت دقاته وقفا على الابن والابنة والزوجة مباع، والكبد التي ما وجعت إلا لأجلهم مباعة... فأي قشعريرة واشمئزاز سيسريان كالقهر في وجدان أفراد هذه الأسرة؟ وما تراه يكون حجمي الدمار النفسي والروحي اللذين استشعرهما هذا الرجل، وهو يعود للبيت بجسد لم يعد له.. مجرد جمل تنتظره السكاكين؟!
هل كان هذا الرجل ضحية ظروفه فحسب، أم تراه كان ضحية الجحود والنكران وبلادة الضمير؟ إن كان الأمر كذلك... فما من كلمات تصمد أمام هذا التقابل الرهيب بين الحياة والموت سوى قول جدنا أبو العلاء المعري:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
خفف الوطأ ما أظن أديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي