عدم إنصاف العمالة الوافدة

تحدثنا في مقال سابق (''الاقتصادية'' 29 فبراير 2010م) عن المعاملة غير العادلة التي يُعامل بها بعضنا عاملات المنازل، سواء بحسن نية وعدم قصد الإيذاء أو بسوء نية واحتقار مع سبق الإصرار. واليوم نود أن نتطرق إلى طريقة بعضنا في معاملة فئة أخرى من العمالة الوافدة، التي تتمثل في استغلال ضعف موقفهم وقِلَّة حيلتهم، ونخص بذلك أولئك الذين نستقدمهم من أجل أداء أعمال مُتواضعة مثل عُمال النظافة والرعي والزراعة والمرافق الخدمية المشابهة. وأول تصرُّف ظالم لهذه الفئة يبدأ مع تحديد رواتبهم الضئيلة التي تفرضها عليهم الجهة المسؤولة عن استقدامهم، مستغلين وضع اقتصاد بلادهم واضطرارهم لقبول العمل تحت أي ظرف من الظروف القاسية لعدم وجود اختيارات أخرى لديهم. فنحن نعلم أن مجموعات كثيرة من تلك العمالة لا يتعدى راتب الواحد منهم 400 ريال سعودي، ويشمل في أغلب الحالات وجبات الطعام. وإذا كان هناك حاجة للعلاج فنظن أنه يحسم أيضا من رواتبهم. والويل لمنْ يغيب عن العمل بسبب مرض أو ما شابه ذلك، فمصيره الحسم من الراتب. وعلى قلة الراتب فمن النادر أن يتسلم العمال استحقاقاتهم الشهرية في نهاية الشهر كما هو المفروض، بل أحياناً يتأخر عدة أشهر عند منْ لا يخافون الله فيهم. هذا مع العلم أن الكفيل إذا كان مُقاوِلاً فإنه يتسلم حقوقه من صاحب العمل كاملاً على رأس الشهر، وهو لا يأبه بحاجة عماله الذين في حاجة إلى الريال الواحد لإرساله إلى عائلاتهم الفقيرة. والله إن المواطن الذي يمن الله عليه بضمير حي ليطأطئ رأسه خجلاً من الله ومن الناس عندما يُشاهد بني جلدته وهم يتصرفون بهذه الطريقة القاسية مع إخوان لهم في الإنسانية، والله سبحانه أعطاهم سعة الرزق في بلادهم وبين أهليهم.
 أما الوضع الثاني الذي غالباً ما يتعرض له معظم المُستخدمين في بلادنا أمثال المذكورين أعلاه، فهو المساكن التي يُوفرها لهم صاحب المؤسسة، والتي يُكدسهم فيها دون خوف أو رحمة، وبعض مساكن العمال ليس فيها مُكيفات أو حتى مراوح ولا أجهزة تدفئة خلال أيام البرد القارس. وكان بودنا لو أن هناك جهات مُعينة مثل الدفاع المدني والجهات الصحية ومكاتب العمل، حيث يقومون بتقييم مدى صلاحية تلك المساكن ويضعون مواصفات للحد الأدنى لما يتناسب مع كرامة وصحة الإنسان. ولك أن تتصور شعورهم نحونا وهم يُشاهدون منازلنا وقصورنا ومركباتنا والرفاهية الزائدة التي يعيشها معظمنا، وهم يفترشون الأرض أو ما يُشبه ذلك. وكثيرون منا يمرون بجانبهم وهم يُؤدون أعمالهم دون أن نلقي السلام عليهم، كما حثنا عليه ديننا الحنيف، لنحقق القول المأثور: ''من تواضع لله رفعه''. وقد تعجبت من إنسان فاضل يُعدُّ من أبرز الدعاة في منطقة الخليج كان يتحدث في مقال له عن واقعة شهدها بنفسه في أحد المساجد أثناء قراءة القرآن الكريم، حيث أعجب بصوت الإمام الجميل والقراءة المتقنة. فلما انتهوا من أداء الصلاة تقدم هذا الداعية الجليل نحو الإمام ليشكره على حسن قراءته ويهنئه على صوته المتميز، فوجد أن الإمام غير عربي ومهنته عامل نظافة. كل ذلك كان طبيعياًّ. ولكن الذي ليس طبيعياًّ هو أن شيخنا ـ هداه الله ـ عندما كان يتحدث عن إعجابه بذلك الإنسان الطيب كان يصفه بمهنته مستعملاً اللفظ العامِّي للوظيفة وهي كلمة ''الزبال''. وكأنه يقول شوفوا يا جماعة، هذا إنسان تافه وحقير وصاحب أدنى وظيفة وهي جمع الزبالة، ومع ذلك فهو يؤم الجماعة ويقرأ ''القرآن العربي'' بفصاحة وبصوت جميل. أليس من الأفضل وعين الصواب أن يقول شيخنا عن ذلك الرجل الفاضل إنه عامل نظافة بدلا من نعته بأنه زبال، لعلها تكون أخف وقعاً على السمع؟ نحن نجزم بأن شيخنا، وهو رجل جليل وفاضل ولا يظهر عليه أي نوع من الكبِر، أنه كان يتحدث بعفوية وحسن نية، ولكنها العادات السيئة التي رسخت في أعماقنا وتظهر لا شعورياًّ عندما نتحدث عن الآخرين، خصوصاً عند ما لا يكونون من بني جلدتنا. لم نكن كذلك عند ما كنا نحن الذين نهاجر إلى بلدانهم للعمل هناك طلباً للرزق. فالنعم الكثيرة التي منحنا إياها ربُّنا تحتاج منا الشكر، لعل الله يديمها لنا ولأجيالنا.
 ومضمون المقال ليس دعوة إلى الذين يستقدمون العمالة الأجنبية الرخيصة أن يُسكنوهم في مستوى مساكنهم الخاصة ولا أن يشركوهم فيما يملكون، ولكنها لفتة إلى أنه يجب علينا أن نتصور أنفسنا مكانهم، لعل ذلك يحثنا على أن نكون أكثر واقعية وكرماً وإنصافاً مع وضعهم. ولن ينقص من أموالنا شيء يُذكر لو أن أحدنا إذا مرَّ بجانب أحد العمالة الفقيرة دسَّ في يده عشرة ريالات صدقة لوجه الله، وسيكون لذلك أثر طيب في نفس الرجل وربما يزيد من عطائه في العمل ورضاه عن المجتمع الذي يُحيط به.
 وهناك إهمال واضح لحقوق العمالة الوافدة فيما يتعلق بمطالبة رفع الظلم الذي يقع أحياناً عليهم وهم يعيشون بيننا دون أن يتدخل المجتمع من أجل حمايتهم. فعلى الرغم من وجود المحاكم والقوانين العامة ومكاتب العمل التي من المفروض أنها تكون خصما لصاحب العمل، إلا أنَّه لا أحد من العمال المستقدَمين يجرؤ على رفع قضية ضد كفيله، خوفاً من الإهانة والطرد وسلب الحقوق دون حماية مضمونة له، إلا ربما ممن يتساوى عنده الأمر ومستعد للتضحية بجزء من حقوقه. فمن حسن المعاملة إعطاء كل ذي حق حقه. إنَّ هذا واقع خطير ولا يعكس ما نتمنى أن نكون عليه بحكم توجيهات شرعنا المطهر وهدي نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمور غير المادية التي نحن مُقصرون في شأنها تجاه إخواننا المسلمين الذين يفدون إلى بلادنا ويعيشون بيننا لسنوات طويلة، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين لا يحسنون التحدث باللغة العربية، هي عدم اهتمامنا بتوعيتهم كأفراد ببعض ممارساتهم الدينية وتعليمهم ولو شيئا يسيراً من الآيات القرآنية التي يحتاج إليها المسلم أثناء تأدية الصلوات. فمن المؤسف أن يعود الواحد منهم إلى بلاده بعد سنوات من الخدمة هنا في مهبط الوحي ولم يستفد ما ينفعه في أمور دينه، ونحن نشاهد حرص مُعظمهم ـ وفقهم الله ـ على تأدية واجباتهم الدينية في أوقاتها على الرغم من مشقة أعمالهم. فتجدهم يُسابقوننا إلى المساجد والخشوع ظاهر على مُحياهم، في الوقت الذي فيه بعضنا - نحن أحفاد جيل الإسلام الأول - لا يعرفون الطريق إلى المسجد، أو قد لا يُصلون البتة، هدى الله الجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي