النمو للنمو والنمو للاستدامة
هناك فرق بين أن تسعى الدولة من خلال اتباع سياسات معينة إلى تحقيق النمو, وأن تسعى إلى تحقيق نمو مستدام. فالمصطلحان وإن كانا ظاهرياً متشابهي الأهداف، إلا أنهما ينطويان على نتائج وسياسات مختلفة. فخلال العقد الماضي كان هناك سعي وتنافس محموم بين الدول لتحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي، مما جعلها تتحمل وتحمل شعوبها واقتصاداتها مخاطر كبيرة كان لها آثار ونتائج كبيرة جداً في تلك الدول وفي شعوبها.
فهناك دول توسعت كثيراً في الانفتاح الاقتصادي دون أخذ مخاطر الانفتاح السريع في الحسبان، ودون اعتبار لتكلفة التحول الضمنية والصريحة على الاقتصاد. كما كان لهذا التحول والانفتاح مظاهر مختلفة، فدول سعت إلى إدماج اقتصاداتها في الاقتصاد العالمي من خلال الدخول في تكتلات اقتصادية مع دول متقدمة اقتصادياً بهدف تحقيق نتائج سريعة، ودول سعت إلى التوسع في قطاعات النمو السريع كالقطاعات المالية، ودول حاولت أن تستنسخ نماذج اقتصادية أخرى دون وجود القاعدة الاقتصادية التي تدعم هذا الاستنساخ. ولأن ذلك يتطلب رؤوس أموال كبيرة، فقد اعتمدت هذه الدول على الاقتراض الخارجي مما زاد من انكشاف اقتصاداتها على العالم.
وبالطبع فإن رأس المال لا يأتي بالمجان، كما أن التنافس عليه محموم، فالكل يريد أن يحتل مرتبة متقدمة في سباق النمو السريع. وهذا جعل الدول تتنافس فيما بينها لجذب رؤوس الأموال. ولأن جذب رؤوس الأموال الساخنة أسهل من غيرها، فقد قامت تلك الدول بتقديم التسهيلات الكبيرة وغيرت كثيرا من أنظمتها وجعلتها أكثر مرونة بهدف جذب أكبر قدر ممكن من رؤوس الأموال تلك. ويبدو أن هذه الدول لم تتعلم الكثير من أزمة نمور آسيا والتي عانت بسبب هذا النوع من رأس المال الذي ما إن يجني أرباحه أو يحس بأي خطر يداهمه فإنه ينطلق بحثاً عن مكان آخر.
وفي خضم تغيرات الاقتصاد العالمي الأخيرة يحق لنا فعلاً أن نتأمل ونتعلم كثيرا من التجارب الواقعية التي تحيط بنا من كل جانب. فهناك أزمة بدأت في الولايات المتحدة وانتقلت آثارها إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط والكل تقريباً تأثر بتلك الأزمة. لكن درجة التأثر اختلفت من دولة إلى أخرى ومن إقليم إلى آخر، فالدول التي تعلمت من التجارب السابقة كان تأثرها محدوداً، أما الدول التي تأثرت كثيراً فقد جمعها عامل التفاؤل المفرط الذي دفعها إلى التوسع والانفتاح وأنساها التجارب والأحداث السابقة. الفرق بين هؤلاء وهؤلاء هو قصر الذاكرة واختلاف الرؤى والأهداف، فهي تسعى إلى نمو سريع لا نمو مستدام، وهو ما جعلها تضع استقرار حياة الأفراد في آخر سلم الأولويات.
هناك فرق بين نموذج الاقتصاد المتمحور حول هدف تحقيق النمو المستدام، والنموذج المتمحور حول هدف النمو السريع. فالأول يراعي تحقيق أهداف طويلة الأمد ببناء قاعدة اقتصادية واسعة للاقتصاد تسهم في توفير التوظف والخدمات والمنتجات وتسعى دائماً إلى تحقيق قيمة مضافة مستدامة للاقتصاد. بينما اقتصادات النمو السريع تعتمد على النمو الناعم السريع الذي لا يرتكز على قاعدة اقتصادية حقيقية تنبع من الاقتصاد نفسه ومن المواطن الذي يصنع هذا الاقتصاد، ولكنها تعتمد بشكل كبير على الخارج سواءً في الطلب أو في التمويل اللازم للاستجابة لهذا الطلب، وهذا صلب المشكلة.
فالاقتصاد الذي يستهدف النمو المستدام يسهم في رفع معيشة المواطن ويكون جزءا كبيرا من النمو معتمدا على إنتاجية هذا المواطن واستهلاكه. فإذا حدثت أزمة مالية في العالم فإنه يكون الأقل تأثراً لأن مصادر نموه ذاتية أولاً، ولأنه لم يخاطر بالانفتاح المالي الكبير على الأصول ذات المخاطر العالية ثانياً، ولأنه لم يعتمد على التمويل أو الطلب الخارجي بدرجة كبيرة مما لا يعرضه لخطر هروب الطلب أو التمويل بسبب زيادة المخاطر. العكس بالتأكيد هو ما يتعلق باقتصاد النمو السريع أو (الناعم)، الذي أكثر من يستفيد منه الأجانب أو أصحاب الثروات من المواطنين الذي ينتفعون من هذا النوع من النمو بدعمه أسعار أصولهم العقارية، بينما الخاسر هو المواطن المعتمد على دخل العمل الذي ينافسه بشراسة فيه الأجنبي. وأخيراً لننظر حولنا ولنفكر فيما آلت إليه الأزمة المالية، فمن خسر أكثر، بالطبع اقتصادات النمو السريع (الناعم) التي تهاوت في أول هبة ريح من رياح الأزمة. بينما تمكن اقتصادنا من مقاومة الأزمة لأنه لم يكن معتمدا بشكل كبير على الطلب الخارجي ولم يساوم كثيراً على تشريعاته وتنظيمه المالي. لا يعني ذلك أن اقتصادنا لا يخلو من المشكلات، بل إن لدينا كثيرا من المشكلات الاقتصادية كالبطالة وكثير من الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد التي تحتاج إلى استراتيجية واضحة لمعالجتها. لكن يجب أن يكون أي طريق لمعالجة هذه الاختلالات النمو المستدام الذي يحقق الرفاه الاقتصادي للمواطن على المدى الطويل.