رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الإحصاء .. هل يولد الإحباط؟

روى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة ــ رضي الله عنه ـ قال: كنا مع رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقال: (احصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ فقلنا: يا رسول الله, أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا. قال: فابتلينا, حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا)، ومعنى (احصوا) أي: عُدُّوا. ولفظ البخاري: (اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس. فكتبنا له..) قال المحدث الألباني تعليقاً على رواية مسلم (احصوا لي) ما نصه: «وهذا الحديث أصل لما يعرف اليوم بقيد النفوس» قلت: وهو أصل أيضاً في الإحصاء الدوري لأعداد السكان. وقصر النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ الإحصاء على المسلمين لظروف اقتضتها مرحلة الدعوة الأولى. وهل جاء هذا الأمر النبوي للإحصاء عبثا؟ حاشاه ــ صلى الله عليه وسلم ــ وقد أعطي جوامع الكلم, بل أعطى هذا التوجيه النبوي حجة عامة للقيام بكل إحصاء تقتضيه المصلحة العامة للدولة.
وإذا كان الإحصاء لعدد سكان الدولة الإسلامية سنة نبوية تقتضيها المصلحة, فإن تسجيل الأعداد الخاصة بشريحة معينة - كإحصاء عدد الجيش (مثلا) وتدوين أسمائهم - سنة عمرية, حيث يروى أن عمرا ــ رضي الله عنه ــ استشار الناس في الأموال العامة التي أخذت تتقاطر على الدولة, وكيف يمكن ضبط نفقاتها, فقال عثمان ــ رضي الله عنه: أرى مالاً كثيراً يسع الناس, فإن «لم يحصوا» حتى يعلم من أخذ, ممن لم يأخذ, خشيت أن ينتشر الأمر. فقال خالد بن الوليد ــ رضي الله عنه: قد كنت بالشام, فرأيت ملوكها دوَّنوا ديواناً وجنَّدوا جنوداً, فدوِّن ديواناً وجنِّد جنودا, فأخذ عمر بقوله, فكان أول من وضع الديوان في الإسلام. وهنا تؤخذ فائدة مهمة, وهي ضرورة الاستفادة مما لدى الدول الأخرى من تنظيم يضمن تحقيق المصلحة العامة, ومن ذلك أسلوب وطريقة الإحصاء, وطريقة توظيفه بما يخدم المصلحة العامة, كتسجيل أعداد وأسماء العاطلين عن العمل, ومعالجة أوضاعهم. والديوان الذي وضعه عمر: هو اسم الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش, وأهل العطاء. قال الماوردي: «وهو موضع لحفظ الحقوق من الأموال والعمال, ومن يقوم بها من الجيوش والعمال» وقيل في وضع الديوان أسباب أخر, إلا أن أصل الإحصاء ثابت بصريح السنة النبوية قبل أخذ عمر بالديوان, وإن كان بين الإحصاء والديوان عموم وخصوص.
إن المصلحة العامة التي اقتضاها طلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للإحصاء هو- والله أعلم - الوقوف والتعرف على حجم قوة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت, ولا يزال عدد السكان في عصرنا الحاضر يعد مؤشراً مهما على قوة الدولة, ولا سيما عدد الجيش وأفراد الأمن العام, وأحياناً يتم التلاعب في الإحصاء لغرض التأثير في العمليات الانتخابية في بعض الدول التي ينخفض فيها مستوى النزاهة.
وحسب ما جاء في الموقع الإلكتروني لمصلحة الإحصاءات في المملكة, فإن من أهداف الإحصاء: تزويد الإدارات الحكومية والمؤسسات العامة والخاصة والأفراد والباحثين بالمعلومات والبيانات الإحصائية الرسمية, وتوفير جميع المتطلبات اللازمة لبناء قواعد بيانات في جميع المجالات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل انعكس الإحصاء إيجاباً وبشكل مباشر في صياغة الاستراتيجيات, وفي وضع الخطط اللازمة لتحقيق الأهداف والمصالح السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية.. كما أشارت إلى ذلك المادة (3) من نظام الإحصاءات السعودي؟ حيث جاء فيها: «تضطلع مصلحة الإحصاءات العامة بمهمة إجراء إحصاءات تجارية أو اقتصادية أو صحية أو تعليمية أو صناعية أو مالية أو زراعية وغيرها حسب الاقتضاء» ولا ريب أن الإحصاءات لهذه النواحي المختلفة لم تذكر في النظام عبثا, وإنما لتخدم هذه المجالات إيجاباً, فالإحصاء – مثلا - لمتوسط نسبة عدد المرضى المرتادين للعلاج إلى عدد الأسرة في المستشفيات لا شك أنه سيرسم حقيقة معينة يجب التعاطي معها بما يخدم النتيجة التي تم التوصل إليها في مجال الإحصاء, وإلا كان الإحصاء ضرباً من الترف, لا بل العبث ربما.., وكيف يمكن رصد نتيجة الإحصاء, وما حققته مستقبلاً من أهداف على مستوى الوزارات والإدارات الحكومية إذا لم يكن الإحصاء في متناول المواطن بكل شفافية ووضوح؟ وقد جاء في المادة (6) من النظام: «تباشر مصلحة الإحصاءات العامة جمع الإحصاءات المتعلقة بأحوال البلاد كافة وحياتها الاقتصادية والاجتماعية, على أن تنفرد مصلحة الإحصاءات العامة وحدها بتحليل ودراسة ونشر نتائج تلك الإحصاءات»، فهل قامت المصلحة فعلاً بتحليل ودراسة ونشر تلك النتائج لجميع الإحصاءات التي تهم الوزارات والإدارات (ماعدا ما تقتضي السرية عدم نشره طبعا) لتكون هذه الوزارات والإدارات تحت رقابة الإعلام والمواطن؟
لا ريب أن الفرد والمؤسسة حكومية أو أهلية ملزمة بتقديم المعلومات اللازمة لإنهاء عملية الإحصاء, وهذا ما لا يختلف عليه اثنان, ولكن المواطن في الوقت ذاته سيكون لديه المحفز الذاتي للتفاعل مع عملية الإحصاء متى رأى الآثار الإيجابية لتلك الإحصاءات الدورية ظاهرة للعيان, أما حين يشعر المواطن بالإحباط فإن ذلك ينتج آثاراً سلبية, فمثلاً إحباط المواطن من علاج قضية تأمين السكن الصالح له مع الإحصاء المتكرر لعدد المواطنين الذين لا يملكون منازل للسكن, ربما أنتج شعوراً داخلياً للمواطن البسيط بعبثية هذا الإجراء, وهلم جرا..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي