تخريج الأطباء واعتماد المستشفيات (1)
إن المناخ المتغير في معايير الجودة لأداء مقدمي الخدمات الصحية والمرافق الحاضنة لهم من تأهيل وتجهيز يؤثر دائما في المقاييس المستخدمة لتقييم هذه المرافق ومن ثم في الاعتماد كمنشآت صحية خدمية أو تعليمية متميزة. قد يرجع ذلك لاختلاف المدارس، أو استمرار التطور التقني والمهني، أو زيادة حجم الحاجة. ولكن لابد ألا يؤدي هذا إلى: (1) تأخير اعتماد المستشفيات والاعتراف بكيانها هيكلة وتنظيما وخدمة. (2) تغيير خطط الجودة وسبل تطبيقها لعدم الثبات على توجه أو هدف واضح. إن اعتماد المستشفيات (كمرافق متكاملة الوظائف صحيا وفنيا وإداريا) ما زال غير مرئي في الأفق، في وقت تخرج جامعاتنا المئات من طلبة كليات الطب وطب الأسنان سنويا وينتظر أن يقدموا خدماتهم بجودة عالية في مرافق معتمدة من قبل جهة متخصصة ورسمية. لأهمية الموضوع خدميا واقتصاديا، نحن في حاجة لطرقه بشكل أوسع وأسرع.
تاريخياً، بدأ اعتماد المستشفيات كفكرة في الولايات المتحدة في عام 1910م. وشيئا فشيئا تم وضع أطر العمل والمعايير المفترض الاستناد إليها بعد أن تكونت الـ JCAHO كوكالة معتمدة لاعتماد المنشآت المقدمة للرعاية الصحية. في أستراليا وفي عام 1926م تحديدا بدأ تبني الفكرة وبدأ في وضع اللوائح والنظم ووضع المعايير في 1972م تقريبا. أما في كندا فقد كانت ولادته في 1952م عندما هب كامل القطاع الطبي بوضع تنظيم ومعايير الخدمة الطبية لمصلحة المريض وما يتلقاه من رعاية صحية في المرافق الصحية. تتابعت دول العالم في تبني هذا التنظيم، ولكن ما جعل الكثير يتأخر فيه هو الدعم المادي، والغرق في بعض المشكلات الداخلية قبل الاستقرار، والاختلاف على أي المدارس يتبعون، إضافة إلى عوامل أخرى. فى المملكة لدينا - ولله الحمد - الاستقرار الذي لا يماثله قطر في العالم. ولدينا الدعم المادي الذي لم يتوافر لكثير من دول العالم حتى المتقدمة منها. ولكن التأخير أصبح في حاجة إلى متابعة وإلا دخل في دوامة قد تؤخرنا أكثر فأكثر.
عمليا لا بد ألا يكرس الاهتمام بديكورات الأجنحة والممرات، أو تنويع أساليب الإضاءة أو تعليق ستائر جديدة أو تأثيث الغرف والصالات بأحدث الأثاث أو تكديس أجهزة الحاسب في المكاتب وقاعات الاجتماعات أو وضع مظلات لتقديم المشروبات الساخنة والباردة ... إلخ، فعملية الاعتماد تركز على جوانب هذه القوائم تعد آخرها. لدينا تقارير وكتب ونشرات سنوية ونصف سنوية أصدرتها وتصدرها دول مرت بهذه المرحلة قبل 80 عاما مما يجعلنا نختصر الطريق بدراسة المنشور وتطبيق ما يناسبنا حسب النظام وتركيبته. في الواقع لم يكن موضوع معايير الرعاية الصحية المقدمة في حد ذاتها، هو المقياس الوحيد الذي يبنى عليه الاعتماد. فقد تنامت النظرة إلى أن أصبحت الإجراءات تتضمن جوانب عديدة، بل تداخلت إلى آن أصبحت المعايير تغطي التنظيم الهيكلي، والتحول أو التشعب في الخدمات حسب تطور المهنة، والجاهزية كموقع تعليمي، وتحديث التقنية، وأخلاقيات المهنة، و... إلخ. بل أصبحت المعايير نفسها تُدْرَس وتُقيم وتُجرب من قبل هيئات أو مؤسسات متخصصة في ذلك لتحديثها. وبالتالي يمكن لتلك المعايير أن تعتمد مستشفى أو تؤجل أخرى أو حتى تؤدي إلى إغلاقها إن لزم الأمر.
نظرا لانتشار الجامعات في جميع المناطق بالمملكة، وقرب افتتاح مستشفيات مرفقة بها، فقد أصبحت حاجتنا للإخصائيين والاستشاريين من السعوديين كبيرة وملحة. لذلك فتأهيل مستشفيات وإعادة تأهيل أخرى لاعتمادها خدميا وتعليميا (أكاديميا)، مع التأكيد على توفير نظام بسياسات وإجراءات واضحة، تعني تجهيزا بشريا متخصصا وكفئا، يحرص على التدريب والتعليم المستمر، ويستخدم أحدث الأجهزة التقنية المتوافرة في العالم. هذه المنظومة بهذه الكيفية يمكن أن ترفع من مستوى الحالة الصحية، وتغذي النظام الصحي بكوادر متخصصة، تحافظ على الشعلة متوهجة جيلا بعد آخر ـ بإذن الله. إن المضي في اعتماد المنشآت الصحية سيؤثر بشكل مباشر في المسيرة الوطنية المحلية لبرامج الدراسات العليا للتخصصات الطبية في الكم والنوع. ومع أني مع منهج الابتعاث في كثير من التخصصات لما له من إيجابيات لا يمكن حصرها هنا، إلا أننا نريد التوازن بين تقديم الخدمة وانتظار أعداد هائلة لفترة ما بين سبع إلى تسع سنوات دون أن يكون لها مساندة فعلية في تقديم الخدمات خلال الدراسة داخل المملكة. كما أن التطوير المهني يمكن أن يكتسب في وقت لاحق عن طريق برامج تعاونية للتدريب المستمر، أو تبادل للخبرات أو ضمن الوثائق الموقعة للتعاون بين الدول أو المنظمات أو المؤسسات المتخصصة أو العلمية في هذا الجانب.
عمليا ومع بداية الخطة الخمسية العاشرة يتوقع أن يبلغ أعداد الخريجين في كليات الطب ألفي طبيب سنويا، وإذا ما أردنا في هذه العدد البسيط تسكينهم في مقاعد الدراسات العليا في ثمانية تخصصات طبية علاجية مثلاً، فسيكون هناك تقسيم لهم بين مبتعث خارجيا، وموفد داخليا حسب التخصص وإتاحته، وآخرين «في الانتظار». السؤال البدهي هو: هل ستكون المستشفيات والمراكز الصحية العلاجية المتقدمة في المملكة مؤهلة علميا وعمليا (وليس حجماً) ومعتمدة لاحتضان هذه التخصصات لهذا الكم من أبنائنا المتميزين؟ هذا لا شك أنه سيكون من مهام المجلس المركزي لاعتماد المنشآت الصحية، بالتعاون مع الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. ولكن هل لهيئة التقويم والاعتماد الأكاديمي دور لم يذكر بعد وخصوصا أنها تعتمد البرامج وتقيم الأعمال الأكاديمية في الجامعات أو مرافق التعليم ما فوق الثانوية؟ مع كل ما يبذل من جهود (وهي ليست بالهينة)، ولا يمكن نكرانها أو إجحافها، إلا أن الوضع يستدعي علاج وضع المجلس المركزي ليتحول كهيئة مستقلة (كما طرح سابقا) بعد استكمال المعايير وتجهيز الموارد ووضع الخطط التنفيذية في إطار زمني من الآن. وللحديث بقية.