الهيئات العامة الجديدة والحاجة إلى هوية وشخصية
شاهدنا وقرأنا الأسبوع الماضي الزوبعة الكبيرة بين هيئة الاتصالات والمعلومات والشركات العاملة في هذا القطاع حول التجوال الدولي والعروض التي قدمتها تلك الشركات لعملائها، وكذلك حول الشبكة الموحدة بين المشغلين الثلاثة والشبكات الدولية لأولئك المشغلين، حيث قدمت تلك الشركات عروضا سخية بهدف استقطاب العملاء في منافسة شرسة منذ اليوم الأول لقدوم ثاني مشغل منافس للمشغل الوطني شركة الاتصالات.
وقد كان لي وجهة نظر منذ اليوم الأول لبدء حمى المنافسة بين شركات الاتصالات، وأنها ما كان يجب أن تكون بهذه الطريقة، مقتنعاً بأن المشغلين الأول والثاني دخلا في حملة قوية وصلت إلى مرحلة كسر العظم! كان بالإمكان أفضل مما كان! ولكن نجد العذر لحداثة الفكر التنافسي في المنطقة العربية في هذا المجال وفي كل المجالات الأخرى! وقد كانت محصلة هذا التنافس بين الطرفين، أن كلا المشغلين خسرا مليارات الريالات بسبب هذه المنافسة (الصورة من طرف مصلحة الشركات). وإن كانت نسب الخسارة تختلف من مشغل إلى آخر حسب المعطيات على أرض الواقع، وإن كانا لا يزالان يعتقدان أنهما كسبا ولم يخسرا! ولا نلوم تلك الشركات، فهناك فكر جديد كان في حاجة إلى قيادة حكيمة من قبل قادة تلك الشركات!
ما أود تسليط الضوء عليه ليس الخلاف بين الشركات المشغلة للهاتف الجوال وبين الجهة الإشرافية والرقابية عليها والمتمثلة في هيئة الاتصالات والمعلومات كإحدى الهيئات العامة حديثة النشأة. لكن قضية الهيئات تلك وحداثة التجربة وما يحتاجون إليه لتحقيق الأهداف التي من أجلها أوجدت تلك الهيئات، من فرض الاحترام والالتزام ما بين تلك الهيئات والجهات التي تعمل تحت مظلتها، حيث اليوم لدينا عدد كبير منها كلها تعد هيئات حديثة لا تتعدى أعمارها السنوات الخمس، سواء كانت هيئة سوق المال أو هيئة الاتصالات والمعلومات أو هيئة السياحة والآثار أو هيئة الكهرباء أو هيئة الإسكان العامة أو هيئة الطيران المدني بشكلها الجديد أي هيئة حكومية تقوم بتنظيم والإشراف والرقابة على قطاع معين.
وبالعودة إلى الموضوع الرئيس، نقول إن هناك واجبات ومسؤوليات تقع على عاتق تلك الهيئات يتوقعها المسؤولون في هذا البلد ويتوقع المجتمع منها أيضا تحقيق الأهداف التي من أجلها أنشئت. منها تطوير القطاع بما يحقق أهداف التنمية وبما يحفظ الحقوق كلها دون استثناء. فلا توجد هيئة تمثل شريحة محددة فهي المستأمنة على عدالة المنافسة وإعطاء كل ذي حق حقه داخل القطاع سواء للمشغلين أو للعملاء أيا كانوا، سواء أفرادا أو مؤسسات وشركات. وأتمنى أن تكون كل القطاعات في المملكة خاضعة لهيئات إشرافية ورقابية لتحقيق تلك الأهداف!
لكن بسبب حداثة التجربة حدثت أخطاء كبيرة تضرر منها بالدرجة الأولى الاقتصاد وبالتالي المجتمع بكامله. وأوضح مثال هيئة الاتصالات والمعلومات, حيث إن الإدارة الأولى للهيئة ونقولها بكل شفافية استطاعت تحقيق أهداف مهمة من خلال فتح مجال المنافسة وتحقيق عوائد مهمة لميزانية الدولة تفوق 30 مليار ريال من خلال منح رخصتين جديدتين لمشغلين اثنين, إضافة إلى المشغل الأول الذي أيضا يدفع مبالغ سنوية كرسوم حكومية كانت تفوق 20 في المائة, واليوم أعتقد أنها في حدود 10 في المائة، ومع باقي ملكية الدولة فوق 70 في المائة من المشغل الأول. ويكفي ملاحظة التطور الهائل في مستويات الخدمة بعد فتح باب المنافسة وفي الانخفاض الواضح في تكاليف الخدمات، بعد أن دفعنا في الزمن القديم أكثر من عشرة آلاف ريال لقاء الحصول على جوال بعد تدخلات وواسطات. لكن على مستوى سيطرة الهيئة على تلك الشركات وفرض الاحترام من خلال فرض النظام والشخصية. أعتقد أن هناك قصورا واضحا في هذا الصدد منذ اليوم الأول، وقد بدا واضحا من خلال الإدارة الجديدة للهيئة التي وبشكل لم يحدث من قبل ظهرت وكأنها تعمل ضد مصلحة المواطن لمصلحة فريق على حساب فرق أخرى! ما أدى إلى وصول الأمر كما ذكرت المصادر إلى التظلم إلى الجهات القضائية. وزن الأمور بشكل يحمي الحقوق أمر في غاية الأهمية ومنتهى الحساسية، خاصة في مجتمع لم تصل فيه مؤسسات المجتمع المدني إلى المستويات المأمولة بعد. أين شخصية وهوية الهيئة أمام هؤلاء المشغلين؟ وكيف يتجرأون بمخالفة الجهة المنظمة والمشرفة عليهم؟ سؤال كبير بحجم كبر المخالفات!
هناك تجربة تعد ناجحة بكل المقاييس ومنذ عقود, وهي تجربة مؤسسة النقد كجهة إشرافية ورقابية على القطاع المصرفي في المملكة منذ الأربعينيات من القرن السابق, حيث توجد اليوم تجربة تراكمية ثرية. حتى أكون منصفا وموضوعياً ولن أدعي الحياد فيما يخص مؤسسة النقد حيث بدأت حياتي العملية في هذه المدرسة العريقة، وأدين لها بالفضل بعد الله في الخبرة التي تكونت عندي اليوم، أقول إن «ساما» نموذج محلي يحتذى به، فلم البحث بعيدا عن تجارب ترهقنا، وقد تصيبنا بالإحباط؟ المميز في تجربة «ساما» أن هناك شخصية واضحة تفرض احترامها على المؤسسات المالية التي تقع تحت نطاقها ولها شخصيتها، وبالتالي لم نشاهد في يوم من الأيام أو نسمع عن خلافات أو عدم رضا، رغم أن المؤسسة وفي كثير من الأحيان تضرب بيد من حديد على المخالفات التي ربما ترتكبها إحدى المؤسسات المالية, وذلك دون أن تكون هناك إثارة أو أخذ ورد كما حدث مع هيئة الاتصالات والمعلومات والشركات العاملة تحت رقابتها! والله من وراء القصد.