الاستثمار .. والركض وراء الظلال

إن أي قادم للسعودية سوف يلفت انتباهه حجم الأشغال والإنشاءات التي تنتشر في مدن المملكة وقراها: طرق، جسور، أنفاق، مدارس، جامعات، صروح عمل وإنتاج وخدمات .. كأن البلاد برمتها أصبحت ورشة عمل كبرى تعيد إلى الأذهان مشاهد طفرة السبعينيات من القرن الماضي.
من ناحية أخرى، فتح الاستثمار الأجنبي الباب على مصراعيه لتنامي منشآت صغيرة ومتوسطة وكبرى، كانت معها الهيئة العامة للاستثمار كريمة في منح التراخيص على نحو أربك تلك المنشآت الوطنية الناشئة وزاحمها بمنافسة ليست في صالحها لأسباب عديدة أبرزها: أن أولئك القادمين على استعداد للعمل بوقت مفتوح وأجر رخيص لا تقوى على مجاراتهم فيه المنشآت الوطنية ولا القوى الوطنية.
وإذا كان دوي التنمية الإنشائية والعمرانية بادياً للعيان وتتولى الدولة رعايته والإشراف عليه مثلما هي أساساً الممول السخي له مختصرة بهذا الكم المتنوع من المشاريع، الزمن تحت ضغط تأمين مرافق التنمية الحيوية لبرامجها الاستراتيجية، فإن حكاية الاستثمار الأجنبي في منشأته الصغيرة بالذات والشكلية في الغالب تحتاج منا اليوم إلى مراجعة دقيقة وتقويم فعلي لأدائها ولطبيعة أنشطتها ومعرفة إذا ما كانت هذه الاستثمارات تقدم قيمة مضافة لاقتصادنا الوطني أم تمتص كالعلق دمه ونفعها في اتجاه الخارج تسريب عوائد استثماراتها هناك عوضا عن الإسهام في دعم اقتصادنا!!
إن مراكز الدراسات والبحوث الاقتصادية، في الجامعات أو في القطاع الخاص مطالبة بأن تتولى التحقق من هذه القضية، وأن تباشر هذه المهمة بالنزول إلى الميدان وعدم الاكتفاء بالدراسات المكتبية أو الاتكاء على المسوحات العينية أو على الاستمارات الاستبيانية (المغررة) أو حتى الاعتماد على مصادر الجهات التي غالباً ما تكون أرقامها وبياناتها صناعة علاقات عامة وتلميعاً أكثر منه جرداً فعلياً لواقع الحال.
على أن الدور الجوهري والأساسي، الذي كان ينبغي حدوثه منذ زمن، وأصبح من المحتم أن يتم الآن طالما أنه لم يحدث بعد، هو أن تبادر الهيئة العامة للاستثمار بنفسها وتقدم لنا كشف حساب حقيقياً للإنجاز الفعلي للاستثمار الأجنبي في بلادنا ومدى صدقية وأهمية وجدوى ما يملأ أرجاء وطننا من صخب تراخيص الاستثمار، وإذا ما كان أصحاب هذه التراخيص يشكلون فعلاً إضافات استثمارية أم أنهم دخلوا البلاد تحت مظلة الاستثمار فيما هم حالات طفيلية على الاقتصاد الوطني وعلة تزيد في تأزيم قضية السعودة؟!
إن هذا النشاط العارم الواضح في أعمال الإعمار والإنشاءات المتنوعة لمشاريع الدولة يبرهن على صدقيته بحضوره العيان أمامنا ليل نهار، وهو ينجز على مرأى منا جميعاً، لكن ما ليس معروفا وغامضا ومثيرا للحيرة والقلق هو دور هذه التراخيص الاستثمارية التي ينهش بها من هب ودب جسد هذا البلد وينخره دون أن يقال لنا إذا ما كانت تعمل كما هو المستهدف والمأمول أم أنها مجرد كيانات انتهازية تقوم بدور خيال المآتة في تنفير وإقصاء أبناء الوطن عن المشاركة وإخماد أنفاس منشآتنا الوطنية الوليدة بفعل استعدادها للمنافسة المعوجة!!
نظن أن مراكز الدراسات والبحوث، بل الهيئة العامة للاستثمار بالأساس مطالبة للمرافعة بمسؤولية أمام محكمة الضمير للدفاع عن صحة النشاط الاستثماري وعافيته والكشف لنا عمّا إذا كانت هذه الاستثمارات هي فعلا استثمارات نوعية تملك جدوى ومبرر وجودها، وأنها تشكل قيمة مضافة لاقتصادنا الوطني، وبالعموم تعميقا لتنميتنا المستدامة أم أنها فقط مثل (وتد جحا) لاستدامة أصحابها ولا غير؟!
قد يكون التساؤل حاداً، وهو كذلك.. لكن حدته جاءت من هذا الزحام المهول لعمالة تملأ الأسواق والحارات وتسد الأفق فيما الحصاد جعجعة ولا طحين مقابل مواطنين يبحثون عن عمل وتراخيص أعمال مسمياتها على الورق فحسب .. والحكاية تبدو كما لو أنها مجرد ركض خلف الظلال .. مرة تقصر، مرة تطول .. لكنها تبقى مجرد ظلال في كل حال!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي