من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟
تتزايد المشكلات الاقتصادية في كل دولة بشكل مطرد مع تزايد النمو السكاني. هذا الأمر طبيعي ويحدث في كل دولة، لكن الدول تختلف من حيث قدرتها على مواجهة تلك المشكلات سواءً من حيث الإمكانيات المادية، أو من حيث الاستعداد لمناقشة تلك المشكلات بشكل عام وطرح الحلول المناسبة لها. وكلما تقدمت الدولة، ازدادت متطلباتها الاقتصادية والاجتماعية، والفرق بين الدول يكمن في القدرة على مواجهة تلك المشكلات بالكفاءة والسرعة المناسبة لتجنب تراكمها جيلاً بعد جيل.
ونقطة البداية الأساسية لمواجهة تلك المشكلات هي التعرف عليها وتحليلها حيث تكون الصورة واضحة لمتخذ القرار. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تحديد العلاج المناسب لهذه المشكلة، وهي المرحلة الأكثر حرجاً، لأن ما قد يبدو للبعض أنه حل جذري للمشكلة، قد تثبت الأيام أنه حل لجزء واحد منها مع ترك الأجزاء الأخرى دون حل. بمعنى آخر يمكن تشبيه الأمر وكأنه عمل طبيب يعالج جانباً واحداً من المرض ويترك الجوانب الأخرى، أو يعالج الأعراض ويترك جذور المرض، ما يعني أن معاناة المريض لم تنتهى، وسيستمر يعاني بقية حياته.
والاقتصاد السعودي يواجه وسيواجه تحديات كثيرة على المستوى المتوسط والطويل الأمد، حيث إن زيادة التعداد السكاني، وزيادة حركة النشاط الاقتصادي المرافقة لذلك، تؤدي إلى تزايد الطلب على الكثير من القطاعات الاقتصادية الأساسية مثل قطاع العمل وقطاع الصحة وقطاع الخدمات البلدية وقطاع التعليم وقطاع الخدمات الأساسية كالكهرباء والطاقة والماء والاتصالات وقطاع الخدمات الاجتماعية، وقائمة لا تنتهي من القطاعات الاقتصادية الحيوية التي تعد العصب الرئيس للنشاط الاقتصادي وللتقدم والازدهار في أي بلد. هذه الزيادة في التعداد السكاني كما ذكرت تجعلنا نواجه بتحديات غير مسبوقة بالنسبة لاقتصادنا وتجعل التفكير في حل شامل لهذه الحلول يكون شبه مستحيل.
على سبيل المثال لا الحصر، قطاع الكهرباء يواجه تحدياً كبيراً خلال الفترة المقبلة، حيث يتطلب استثمارات ضخمة تقدر بـ 25 مليار ريال سنوياً قد يكون من الصعب على الدولة وحدها القيام بها. وقد عرضها المهندس علي البراك بشكل مفصل في ندوة ''الاقتصادية'' حول تحديات قطاع الكهرباء، وأبرز خيارات كثيرة منها دخول القطاع الخاص كمستثمر في إنشاء محطات توليد الطاقة وقيام الشركة بشراء الطاقة بعقود طويلة الأمد. لكن دخول نجاح هذا الخيار والاستمرار فيه مرهون بالجدوى الاقتصادية المرتبطة بالتعرفة المنخفضة على استهلاك الكهرباء، لذلك فإن الخيار المطروح أمام الجميع لحل المشكلة يكمن في زيادة التعرفة الكهربائية. وقد أتفق مع المهندس البراك أن تحديد التعرفة الكهربائية المنخفضة من قبل الدولة يعوق بشكل كبير التوسع في إنتاج الطاقة الكهربائية من خلال التوسع في إنشاء محطات التوليد، لكن هل الحل فقط في زيادة تعرفة الاستهلاك للكهرباء؟ هي بالطبع جزء أساسي من الحل، لكن لا يجب القفز عليها كحل وحيد نتوقع منه أن يحل كل مشكلات شركة الكهرباء، ويجب ألا ننسى أن الشركة تعاني من مشكلات أخرى تتمثل في انخفاض إنتاجية العاملين، مشكلات تتعلق بتقديم الخدمة، مشكلات مع شركات أخرى، ضعف في كفاءة تحصيل مستحقات الشركة، تقديم الخدمة لمناطق وقرى غير مجدية اقتصادياً، وقائمة طويلة من المشكلات التي لا أعتقد أن رفع التعرفة وحده سيؤدي إلى حلها. هذا لا يعني أنني شخصياً ضد عملية رفع التعرفة إذا كانت ستحقق مصلحة اقتصادية محددة واضحة المعالم للدولة، ولكن ما أخشاه أن نأتي بعد سنوات ونجد أن الشركة تراوح مكانها وتعاني من المشكلات نفسها التي عانت منها سابقاً. على سبيل المثال، قد يؤدي رفع التعرفة وحده إلى توسع الشركة في النفقات الإدارية، أو التوسع في شراء معدات مكلفة مع توافر البدائل المنخفضة التكلفة، ما قد يؤدي في النهاية إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج. ويجب ألا ننسى أن خفض التكلفة ممكن في ظل الظروف الحالية بمقارنة كفاءة الإنتاج في محطة كهرباء الشرقية قبل توحيد الشركة، والتكلفة الحالية التي ارتفعت بشكل كبير بعد التوحيد، ولنتذكر أن القليل مع التدبير خير من الكثير مع التبذير.
إذاً ما الحل؟ يجب أن تقوم الشركة بفرز ما يمثل عبئاً مالياً عليها كالقرى والهجر التي تم توصيل التيار الكهربائي إليها أخيرا والتي أدت إلى زيادة في تكلفة التعرفة، وأن يكون هناك ترتيب معين مع الدولة لتغطية تلك التكلفة، لأنه من غير المنطقي أن يتحمل المواطن الذي يسكن المدينة هذه التكلفة. بمعنى آخر أن يتم تحديد التكلفة بناءً على الاستهلاك والإنتاج الكفء وعلى أساسها تحسب الزيادة اللازمة في التعرفة لمواجهة الاحتياجات المستقبلية من الإنتاج الكفء فقط. كذلك من غير المنطقي أن يطالب المستهلك بترشيد الاستهلاك دون إعطائه الوسائل اللازمة لذلك ومن ذلك القراءة الإلكترونية للاستهلاك، وتقنيات التحكم في الاستهلاك خلال فترة الذروة. لذلك، أقترح أن يكون هناك حزمة من الحلول (وقد يكون من ضمنها رفع التعرفة إذا رأت الشركة ذلك)، وفي الوقت نفسه حزمة من الالتزامات التي تلتزم بها الشركة للتمتع بهذه الحلول، كأن يكون رفع التعرفة مرتبطاً بتخفيض تكلفة الإنتاج خلال فترة معينة، وألا يتم استخدام الزيادة الناتجة عن رفع التعرفة في أي توسع إداري في النفقات وأي زيادة في المرتبات والأجور، وأن يتم تحقيق حد أدنى من العائد على رأس المال للتوسعات الجديدة، وأي تدابير أخرى للتأكد من توجه هذه الزيادة إلى تحقيق الحاجة المستقبلية الكفؤة فقط. ملاحظة أخيرة فقط: المهندس علي البراك قارن بين رسوم اشتراك الهاتف الجوال ورسوم اشتراك الكهرباء، لكن أعتقد أن المقارنة في غير محلها، لسبب بسيط لم يفكر فيه المهندس علي أو الزملاء في الشركة وهم دائماً يكررون هذه المقارنة، وهو انتفاء الخيار أمام مستهلك الكهرباء بينما يتوافر الخيار بالاستهلاك من عدمه في حالة الهاتف الجوال، وهو ما يبرر ارتفاع تكلفة الاشتراك اقتصادياً سواءً من الناحية العملية أو الناحية النظرية في الجوال عنه في الكهرباء.