وجود المحرم مع المبتعثة لا يعني الوصاية وفقدان الثقة بل الرفقة والقوامة
تهكم البعض على قرار وزارة التعليم العالي المتضمن قطع مكافآت الطالبات بمجرد العلم بعدم وجود محارم برفقتهن، وينظر هؤلاء إلى مثل هذا الإجراء بأنه استجابة لعرف قديم وتخلف ورجعية قد تعوق عجلة التنمية، وكأن الهدف المبطن من الابتعاث خلخلة الثقافة، وفهم الحياة بمنظار الغير والتجرد من الأعراف، والقيم، والدين. يرى هؤلاء جهلا أو تجاهلا أن المحرم عبارة عن رقيب للمبتعثة داخل قاعات الدرس وخارجها ، يرصد تحركاتها، ويراقب نظراتها، ودقات قلبها وإن استطاع أن يتسلل إلى نيتها فليفعل. ورغم عدم قناعتي بالطريقة التي تنتهجها وزارة التعليم العالي في ابتعاث المراهقين، إلا أنني أرى أن إصرارها حول موضوع “المحرم” عقل وحكمة. فلقد تربى أبناؤنا وبناتنا على مبادئ فريدة من عبادات، ومعاملات، وعلاقات من أبرزها علاقة الرجل بالمرأة حتى أصبحت واقعا يصعب تغييره، لأن الناس قد اعتادت عليها فما علينا سوى قبولها، وتجنب صدامها، لأن الاستعجال في التغيير يعني الصدام والتناحر الذي يولد التباغض فنتحول من البناء والتنمية إلى التوهم أن سبب تخلفنا هي ثقافتنا. يرى علماء الاجتماع أن المجتمعات كالأفراد تحارب التغيير، خصوصا تغيير القيم الجوهرية، والأعراف، والعادات، والعقائد لأن محاولة زعزعتها يتطلب إحلال مفاهيم بديلة، وعمل كهذا يحتاج إلى صبر ومجهود مضن ويستغرق وقتا طويلا.
ولا أدري لماذا يعادي بعضنا ثقافتنا المحلية ويحاولون زعزعتها بحجة أنها سبب تخلفنا وعائق تقدمنا؟ إن اختلاف ثقافات شعوب الأرض لا يعنى البتة تخلف بعضها، ولا أرى سببا يحتم علينا أن نكون صورة من مجتمعات أخرى، وأخشى ما أخشاه مع هذا الهلع في التجرد من قيمنا، وأعرافنا أن تتفرق بنا السبل فنفقد أصالتنا حتى نصبح بلا هوية. نعم برز في مجتمعنا في السنوات الأخيرة تناقضات عديدة لا تخفى على أحد. فعلى سبيل المثال: يحظر على المرأة قيادة السيارة، ولكن يجوز لها الخلوة مع الرجل (السائق)، وقد يكون سبب ظهور مثل هذه التناقضات في مجتمعنا أننا ربطنا غالبية أمورنا التنظيمية ربطا مباشرا بالدين.
ورغم ظهور مثل هذه التناقضات في حياتنا، إلا أنها لا تعد مبررا للخروج على قيمنا، والتمرد عليها فتنكرنا لها يتطلب توفير البديل، لأن الناس لن يقبلوا العيش دون قيم وأعراف يتحاكمون إليها. ولكن من أين نأتي بالبديل؟ هل نحتاج إلى استيراده حتى نفقد آخر مساهمة لنا في الإنتاج الحضاري فنصبح نستورد المنتجات وبرفقتها القيم والعادات. لماذا لا نكون كاليابانيين ليس في التشبه بهم بل في تمسكهم بموروثهم، فنراهم يعضون بالنواجذ على قيمهم وعاداتهم، بل ويتفاخرون بها، ولم تعيقهم عن التقدم والسيادة، ولا نريد أن نكون كبعض الدول والمدن التي بنت حضارتها وأبراجها واستثماراتها على أنقاض ثقافتها.
مجتمعنا أقرب ما يكون إلى النظام المغلق الذي لا يؤثر ولا يتأثر، وأظن أن أفراده راضون بما اعتادوا عليه ومقتنعون بما ألفوه. فرغم انفتاح الإعلام على مصراعيه واحتكاكنا مع العالم الخارجي والحضارات الأخرى، إلا أن مجتمعنا لم يتأثر كثيرا بكل هذا، ولم يشعر بالتبعية لأي أمة باستثناء من يرون أن الماديات والتحرر الثقافي هي التي أوصلت بعض الدول إلى التقدم ومكنتها من سيادة العالم، غير مدركين أن ما وصلت إليه هذه المجتمعات من تقدم علمي وتقني ما هو إلا تراكم خبرات أسهمت فيه كثير من الشعوب والحضارات والإمبرطوريات الحالية والبائدة. أرى أن القيم والأعراف والعادات، وكل المكونات الثقافية الأخرى لا تمثل عوائق في تقدم الأمم والشعوب، وأظن أن من بنى تنميته على أنقاض ثقافته فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فالتخلف أسبابه واضحة ومعروفة كالحروب، والجهل، والفقر، والصراعات، الطائفية، واضطراب الأمن وغيرها، ولم تكن المكونات الثقافية يوما من الأيام حجر عثرة أمام التقدم والريادة.
ولكن ما علاقة كل هذا بالمبتعثة والمحرم؟ إن ثقافتنا ومن ضمن مكوناتها الدين هي التي جعلت المرأة في بلادنا تستظل بحماية الرجل، فكيف يمكن لفتاة اعتادت على رعاية الأب، ومعونة الأخ أن تواجه الحياة وحدها في بلاد بعيدة وبيئة مختلفة تجهل أنظمتها وقوانينها وسلوك الناس فيها؟ فهل من الحكمة أن نزج ببناتنا في عالم مجهول بحجة مواصلة التعليم ونقل التقنية والخبرة بدون أنيس أو معين؟
كما أن المرأة في أي مجتمع تحتاج إلى سند ومعين، خصوصا في المرحلة المبكرة من حياتها، ومن يشك في صحة كلامي هذا فلينظر إلى البرامج الاجتماعية التي تناقش مشكلات المراهقين الأمريكيين، حيث ينصح المختصون الآباء والأمهات بألا يتركوا بناتهم بمفردهن حتى يكتمل نموهن، وتقوى شكيمتهن، ويصبحن قادرات على مواجهة مصاعب الحياة رغم ما تتمتع به هذه المجتمعات من حرية مطلقة.
وأختم فأقول إذا كان البعض يجهل مهمة المحرم فليعلم أنه يعني الرفيق والمعين والقوامة، ولا يعني الوصاية، وفقدان الثقة، ولم يكن ابدا رقيبا أو جاسوسا كما يفهمون.