الموتى.. من لأرصدتهم وأسهمهم؟

أضحى التنائي بديلاً مـن تدانينـا
وناب عن طيـب لقيانـا تجافينـا
مطلع نونية ابن زيدون التي فاضت بها قريحته في أشبيلية بعد ـ إن شاء الله ـ أن يقضي بقية عمره بعيداً عن مسقط رأسه قرطبة. قرار سياسي أصدره ابن جهور، أحد ملوك طوائف الأندلس، في حق ابن زيدون بعد أن اتهمه بالميل إلى المعتضد بن عباد، صاحب أشبيلية.
شكلت النونية بداية فقدان أمل ابن زيدون بمعاودة التواصل ليس مع مسقط رأسه قرطبة ووزارتها ودواوينها الأدبية فحسب، وإنما مع محبوبته الشاعرة والأديبة ولادة ابنة الخليفة المستكفي التي بادلته حبه بحب، وعاطفته بعطف، وولوعه بولع.
رسالة ابن زيدون في اليأس وفقدان الأمل بالتواصل مفادها أنه ليس هناك أمل في عودته إلى دواوين ولادة بنت المستكفي الثقافية مرة أخرى. وهذه الرسالة أرجو ألا تكون الحال بين الأرصدة المصرفية والأسهم الاستثمارية وأصحابها المتوفين.
رسالة من الأهمية بمكان ألا تترجم حال مجموعة من الأرصدة المصرفية والأسهم الاستثمارية لدى المصارف والشركات العامة السعودية مع الورثة الشرعيين لأصحابها المتوفين الذين توفاهم الله تعالى ولم يتركوا أثرا لدى ورثتهم الشرعيين بما يدخرونه من ثروات لدى المصارف والشركات العامة السعودية.
يكمن الدافع خلف هذا التأكيد ما حدث بالأمس القريب لمجموعة من الورثة الشرعيين لأحد المتوفين عندما دوت لديهم مفاجأة لم تكن في الحسبان أو تخطر على القلب. مفاجأة مدوية فجرها مدير التجزئة المصرفية في أحد المصارف السعودية أخيرا أمام الشقيقتين نورة ومنيرة ذواتي الـ 30 ربيعاً.
شاء الله أن يتوفى والد منيرة ونورة قبل عدة سنوات ليلحق بوالدتهما في الرفيق الأعلى. ذلك الرجل الذي لم يعرف من أقاربه سوى دائرة ضيقة بسبب التنقل المستمر بين هذه المدينة وتلك. توفي والد منيرة ونورة وتركهما في حالة عوز للمحسنين وما تفيض به أعمال الخير. لم يترك والدهما سوى منزل صغير يسكنان به يطل عليهم مالكه بين الفينة والأخرى طالبا قيمة الإيجار.
كما لم يتسن لوالدهما إتاحة الفرصة لهما لتلقي التعليم أو الحصول على وظيفة تسد رمقهما نهاية الشهر بعد وفاته. ظروف معيشية صعبة أجبرت والدهما في نهاية أيامه على قبول الصدقات والعطاءات من المحسنين ورجال الخير بعد أن وقف مكتوف اليدين خالي الوفاض أمام متطلبات منيرة ونورة المعيشية ومن قبلهما متطلباته الشخصية.
هل تعلمان ما سبب استدعائكما من قبل المصرف؟ سؤال مباشر طرحه مدير التجزئة المصرفية على منيرة ونورة. كل ما نعلمه أن المصرف مشهور بأداء دوره في المسؤولية الاجتماعية. ولعل الاستدعاء سينتج عنه معونة مادية لفقيرتين يتيمتين معوزتين مثلنا. إجابة طبيعة صدرت من منيرة ونورة رداً على سؤال المدير.
اكتشف المصرف مصادفة وخلال مراجعة حساباته المصرفية أن حساب والدكما، رحمة الله عليه، المصرفي لدينا لم يتم إغلاقه. ورغبة من إدارة المصرف فقد رأينا استدعاءكما للنظر في هذا الأمر والتوجيه بما تريانه مناسبا حيال ذلك.
لا نعلم لوالدنا أي حساب مصرفي. إجابة مدهشة أطلقتها منيرة رداً على هذا الادعاء الباطل من المدير. بلى، أجاب المدير ثم استطرد في الحديث قائلاً، فوالدكما من قدامى العملاء لدينا وقد ترك في حسابه لدينا قبل وفاته 12 مليون ريال سعودي عداً ونقداً هي من حقكما كونكما الوريثتين الشرعيتين له.
كما أنه، رحمه الله تعالى، لم يتسن له قبل وفاته تحويل شهادة أسهم ملكية المصرف إلى محفظته الاستثمارية مما دعانا إلى الاحتفاظ بها حتى تصل إليكما. وعطفا على ما مر به سهم المصرف منذ طرحه للاكتتاب العام وحتى اليوم من مجموعة من عمليات التجزئة وصرف الأرباح، فقد بلغت القيمة السوقية لأسهم والدكما حسب سعر تداول الأمس علاوة على الأرباح الموزعة 63 مليون ريال!
تركة مالية تقارب الـ 75 مليون ريال لم يعلم الورثة الشرعيون بها إلا عن طريق المصادفة. لا شك أن والدهما، رحمة الله عليه، يتحمل مسؤولية ذلك كونه حرمهما من التنعم بهذه الورثة نظير بخله وأنانيته. ورأى أن يكنز هذه الثروة لنفسه دون غيره. ولكن في نهاية المطاف صاحب الشأن توفاه الله والحالة قائمة لا تلغي مسؤولية الأطراف ذوي العلاقة.
ليست هذه القصة من نسج الخيال أو من بنات أفكار المصرف. وإنما هي قصة واقعية حدثت أخيرا في أحد المصارف السعودية. قصة واقعية قد تتكرر عشرات بل مئات المرات في المصارف تقودنا إلى التساؤل عن مصير هذه الثروات عندما يغيب الموت أصحابها.
عادة ما تندرج مثل هذه الحالات تحت حالتين لا ثالث لهما. الحالة الأولى عندما يعلم الورثة الشرعيون أن وريثهم قد ترك جزءا من ثروته على شكل أرصدة مصرفية أو أسهم استثمارية. والحالة الثانية عندما لا يعلم الورثة الشرعيون بوجود مثل هذه الثروة لسبب أو لآخر.
أما الحالة الأولى فهي ليست محور حديث المقال، كون الورثة الشرعيين سيطلبون من القاضي تصفية التركة. والقاضي بدوره سيطلب من الهيئات والمؤسسات الحكومية ذات العلاقة، كمؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية، بالاستفسار من المصارف حول أرصدة المتوفى ومن ثم موافاة القاضي بذلك تمهيداً لتصفية التركة حسب الإجراءات والسياسات المتبعة لدى المحاكم السعودية.
أما الحالة الثانية فهي حجر زاوية المقال، كون الورثة الشرعيين يجهلون معلومات تركة المتوفى لدى المصارف ناهيك عن سياسات الخصوصية وإجراءات الأمانة المصرفية القائمة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل المؤسسات والهيئات الحكومية لتفادي وقوع مثل هذه الحالة، إلا أنه من الصعب معالجتها ناهيك عن القضاء عليها.
من الأمثلة على هذه الجهود ما قام به مركز تسجيل الأسهم في هيئة السوق المالية من مركزية في تسجيل ملكية أسهم الشركات المدرجة. وما قامت به مؤسسة النقد العربي السعودي من الطلب من عملاء المصارف السعودية أخيرا بتحديث بياناتهم المصرفية وإغلاق الحسابات المصرفية التي لم تحدّث.
وعلى الرغم مما أضافته مثل هذه الإجراءات من إيجابيات عديدة انعكست على حفظ حقوق عملاء المصارف وملاك الأسهم بعد وفاتهم، إلا أن معالجتها بالكلية مازالت في حاجة إلى مضاعفة الجهود. والدافع خلف هذه المطالبة ما قد تتركه هذه المدخرات من آثار سلبية في الأوضاع المالية للورثة، من جهة، والمراكز المالية للمصارف والشركات المساهمة، من جهة أخرى.
ولعل ما واجهته إمارة مكة المكرمة أخيرا من تحديات في نزع ملكيات العقارات المحيطة بالحرم المكي الشريف والجهود المضاعفة التي بذلت لمواجهة هذه التحديات خير دليل على أهمية تفادي تحديات التعرف على ورثة المتوفى الشرعيين والتواصل معهم.
من التجارب الجديرة بالاستشهاد ما أعلنته السلطات العمانية أخيرا عن إنشاء صندوق استثماري يهدف إلى جمع الأرصدة المصرفية والأسهم الاستثمارية المنقطع التواصل مع أصحابها. حيث يتم تحويل هذه الأرصدة لصالح الصندوق بعد مضي فترة زمنية محددة. ثم بعد ذلك يتم تنمية أصول الصندوق واستثمارها تحت إشراف السلطات المالية، حيث تكون جاهزية للاسترجاع مع أرباحها متى ما تم التعرف على الورثة الشرعيين. وعلى الرغم مما أنتجه الصندوق، إلا أن تطلعاته ما زالت دون المأمول.
إن من الأهمية بمكان التأكيد على تفعيل آليات عملية من شأنها معالجة مصير الأرصدة المصرفية والأسهم الاستثمارية للمتوفين غير المعروف ورثتهم الشرعيون لدى المصارف والشركات العامة السعودية معالجة عملية تضمن إعادة الحقوق إلى أصحابها، أو استثمارها بما يعود على البلاد بالنفع والرخاء حتى يتم التعرف على الورثة الشرعيين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي