مؤشر خاص للإبل
دية القتل إما مغلظة وإما مخففة. والمغلظة مقومة حالياً بمائة وعشرة آلاف ريال, والمخففة مقومة بمائة ألف ريال. والجهة المختصة تدرس الآن تعديل هذا التقييم لتغير أسعار الإبل عن سابق عهدها, وقد كتبت مقالاً حول هذا الموضوع بتفاصيله قبل أكثر من عام, ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى المقال المنشور في هذه الجريدة الموقرة.
والدية المغلظة تجب في قتل العمد, وشبه العمد. وتجب على القاتل في العمد بالإجماع, وفي شبه العمد على رأي الجمهور وما رجحه ابن القيم. ومن أهل العلم من أوجبها على العاقلة في صورة شبه العمد؛ استدلالاً بحديث أبي هريرة(حديث الغرة).
والدية المخففة تجب في قتل الخطأ, وهي واجبة على العاقلة في غير صورة الإقرار, والصلح, كما عليه العمل في المحاكم الشرعية.
ومن القواعد الشرعية المقررة أن المكلف لا يتحمل خطأ غيره؛ لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), ولا ريب أن هذا من أبسط مقومات العدالة, وقد استثني من تلك القاعدة الشرعية ومن هذا النص الشرعي الحكم الخاص بالعاقلة؛ للمصلحة الراجحة, فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن دية قتل الخطأ تجب على العاقلة, وهي عصبة القاتل.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحمل العاقلة خطأ القاتل مع كونها لم تتورط في قضية القتل؟
وبتأمل حكمة الشارع, نجد أن القتل الخطأ لم يقع بقصد من القاتل, وإنما وقع على سبيل الخطأ, إما أنه – مثلا - قصد صيداً فأصاب آدمياً, أو أنه فرط في صيانة سيارته فكان سبباً في انفجار إطار السيارة وانقلابها, وتسببها في قتل آدمي, أو أنه تجاوز السرعة النظامية, ونحو ذلك مما يكون سبباً في تورطه في حادثة وفاة معصوم لم يحسب له حساب, وهنا كان حكم الشارع في تخفيف مصاب القاتل خطأ بتحميل العاقلة الدية, ولا سيما أن الدية باهظة الثمن, فمن ذا الذي يمكنه دفع مائة من الإبل, أو قيمتها الحالية؟ ومن هنا جاء تشريع إلزام العاقلة بدفع الدية؛ مراعاة للآتي:
أولاً: التخفيف عن مصاب القاتل, الذي لم يتعمد إزهاق روح الآدمي, وفي هذا تقوية لأواصر المحبة, ووشائج القربى, بإعانة العصبة بعضهم بعضا, ووقوف بعضهم بجانب بعض, ولا سيما في الأوقات الحرجة.
ثانياً: حمل العاقلة على الأخذ بأيدي أقاربهم, بتحذيرهم من الأسباب المؤدية لإزهاق الأرواح البريئة؛ لأن استحضارهم هذا العبء, واستشرافهم له, يحملهم على الأخذ بأسباب السلامة, ومن ذلك تثقيف الأقارب بخطر الذرائع المؤدية إلى القتل, ويبدو ذلك جلياً في المجتمعات الصغيرة, كالقرى والأرياف, ونحوها.
ثانياً: حماية أولياء المقتول من أن يهدر دم قتيلهم دون مقابل, فتخفف الدية عنهم مصاب فقده, وربما لم يكن لهم معيل غيره. أما في صورة القتل العمد, فإن القاتل إن عفي عنه إلى الدية, ولم يستطع دفعها لفقره, فإن الخزانة العامة تقوم بهذا العبء؛ لئلا يطل دم المسلم.
ثالثا: في هذا الأسلوب الشرعي لمعالجة الدية عبر تحمل العاقلة, تثقيف للمجتمع المسلم بأسلوب التكافل, وتخفيف عبء الكوارث من خلال العاقلة, وهو يجسد صورة مصغرة للتأمين التعاوني, حيث إن هذا النوع من التأمين يقوم على فكرة تحمل تكلفة الكوارث بأسلوب تكافلي غير ربحي, وهو ما تقوم بعض الجهات المختصة بإعاقة وجوده على أرض الواقع, وللأسف.
وبالعودة إلى موضوع إعادة تقييم الدية, فإني أقترح على الجهات المختصة وضع مؤشر رقمي خاص بأسعار الإبل كمؤشر السلع الاستهلاكية, بل إن هذا المؤشر أكثر أهمية, وأشد حاجة من مؤشر السلع؛ لأن الديات فيها إلزام من القضاء لأولياء القتيل بقبول الدية المقدرة, وهذا يقتضي أن يكون التقييم في منتهى الدقة, ومستجيباً للتغيرات الطارئة على أسعار الإبل, أما مؤشر السلع الاستهلاكية, فالحاجة إليه وإن كانت ماسة في ظل تلاعب التجار بأسعار السلع, إلا أن المشتري بإمكانه البحث عن السعر الأفضل دون إلزام من أحد بشراء عند حد معين, وهذا بخلاف تقييم الإبل, الذي يجب أن يراعى فيه جانب الإلزام, وإخضاع الأولياء بقبول الدية وإن كانت منخفضة التقييم كما هو واقع, ولهذا ينبغي وضع تقييم عادل, ومتغير يومياً أو أسبوعياً أو شهريا على الأكثر, لئلا يخضع التقييم للروتين الدائم, الذي قد يستمر لسنوات دون تغيير كالتقييم المعمول به اليوم, فهو مقدر من أربعين عاما..! ولهذا, فإني أرى في ظل التقييم المنخفض أحقية أولياء القتيل بإلزام القاتل أو عصبته بمائة معدودة من الإبل, وفي رأيي الشخصي أن القاضي لا ينبغي له رفض طلبهم؛ تحقيقاً للعدالة, وإبراء للذمة أمام الله تعالى.