صناعة التقييم..على الهامش!
تعج المدن السعودية منذ أكثر من خمس سنوات على الأقل بالمئات من المشاريع العملاقة والنوعية إلى جانب العشرات من قرارات الإصلاح الاقتصادي وتحسين بيئة الأعمال الحكومية منها والخاصة، التي من المنتظر أن تحقق قفزة نوعية في أداء الاقتصاد السعودي على المدى البعيد، وسأكتفي بالاستدلال ببعضها وأكثرها أهمية، ست مدن اقتصادية ونحو 12 جامعة جديدة، وإصلاحات في سوق المال منها إنشاء سوق للصكوك والسندات، وطيران اقتصادي، وسوق خليجية مشتركة، ومشاريع تكرير نفط، وجذب استثمارات أجنبية، ومشاريع قطارات، واستراتيجية صناعية ضخمة،.. وليس المقال مقاما لذكر المزيد.
رغم كل هذا النشاط الجيد الذي نتوقع أن ينعكس على مدى تنوع الاقتصاد السعودي، إلا أن هناك حلقة مفقودة أسهمت ولاتزال في إضعاف بيئة الأعمال السعودية وتعثر العشرات من الأنشطة الحيوية و «الأفكار البراقة».. دون أن يجد لها أحد حلا.. الحلقة المفقودة هي شركات التقييم والتصنيف وبصورة أقل شركات قياس الرأي العام ودراسات الجدوى، هذه الصناعة المهمة والداعمة لأي نشاط تجاري حقيقي..تكاد تكون على هامش ليس في السعودية وحسب بل في منطقة الخليج كلها وجميع الدول العربية.
نفتقدها بصورة غريبة ليس لها مبرر.. ومخجلة أحيانا لرؤيتي مدى تحكم المؤسسات الغربية فيها.. رغم أنها صناعة لها جانب ثقافي يتعلق بمدى إلمام هؤلاء المقيمين بلغة قطاع الأعمال المحلية، وأبعاد اجتماعية وتسويقية تتعلق بالمستهلكين وحجم السوق وطبيعته وأخرى قانونية تتعلق بالأنظمة واللوائح المعمول بها في المنطقة.
لقد كشفت دراسات اقتصادية صدرت حديثاً عن وجود ارتفاع في عدد التصنيفات الائتمانية والنشاطات الاستشارية التي تسوقها وكالات التصنيف العالمية للشركات الخليجية ما بين الأعوام 2004 و2010، مشيرة إلى أن تلك الشركات حققت ملايين الدولارات من الأرباح دون أن تقدم الأداء الاحترافي الموثوق.. كما حددت الدراسة التي عرضت في العدد الأول من مجلة «الائتمان» التي تصدرها «سمة» أبرز السلبيات أيضاً في عمل وكالات التصنيف العالمية ومنها الزيارات القصيرة التي تجريها إلى مختلف دول الخليج وتعد بعدها التقارير الاستشارية والتصنيفات الائتمانية من خلال مكاتبها في دبي، لندن أو نيويورك..دون أدنى اكتراث بمدى قانونية ذلك.
ما أود التأكيد عليه أن هذه الصناعة التي قد يراها البعض غير ضرورية هي مهمة للقيام بأي نشاط اقتصادي مدروس ولاستكمال العديد من الأنشطة المالية والتجارية، تحتاج الشركات والمؤسسات الحكومية على اختلافها لخدمات شركات التقييم والتصنيف العملاقة والمحترفة، وشركات دراسات الجدوى والاستفتاء التي تصنع التوجهات وتقيم الأداء..وتستكشف الأسواق..ولقد سمعت من عشرات الاقتصاديين السعوديين أنه لن تقوم قائمة لسوق الصكوك والسندات دون شركات تصنيف وتقييم، ولن تنتشر المشاريع الربحية والنوعية (المتوسطة والصغيرة) دون شركات دراسات جدوى محلية.. ولن تتعزز المنافسة بين البنوك وشركات الوساطة إلا بالتصنيف «المحلي»..ولن تنشط سوق الائتمان دونها أيضا.
العجيب في الأمر أنه رغم أن هذه الصناعة تعد فرصا اقتصادية نادرة كما أنها من أقل المشاريع تكلفة اقتصادية ويمكن أن تحقق الأرباح الطائلة إلا أن هناك عزوفا من قبل المبتكرين من رجال الأعمال لاقتحام هذا المجال.. ولكن هناك من رجال الأعمال من يقول إن المشكلة تكمن في عدم وجود تشريعات تحكم عمل هذا النوع من الشركات في السعودية.. وأنا هنا أتساءل: كيف نقبل بأن تمارس شركات التصنيف العالمية أدوارها في السوق المحلية ونمتنع عن الترخيص والتشريع لشركات محلية منافسة؟