ضرورة إصلاح سوقنا المالية
عندما تعلن هيئة السوق المالية السعودية معاقبة أحد المتداولين بمبلغ 50 ألف ريال في الوقت نفسه الذي توافق فيه على طرح شركات بعلاوة إصدار متضخمة تمكن ملاكها من جني مئات الملايين إن لم يكن مليارات الريالات من المتداولين فإنك لا بد أن تصل إلى قناعة بأن هيئة السوق المالية تجد صعوبة واضحة في تحديد أولوياتها وتعيش في عالم ما قبل انهيار شباط (فبراير) 2006 عندما كان أكبر مخالفات السوق عمليات التداول الوهمي والتداول بناء على معلومات داخلية ونحوها من ممارسات. أما الآن، فالأداء الضعيف للسوق حاليا حد مؤقتاً من قدرة المتلاعبين على التأثير في عمليات التداول وأصبحت نتائجها غير مضمونة، وأضحى أهم وأخطر مشكلة تواجه السوق حاليا هي إدراج الشركات بعلاوات إصدار متضخمة تجعل تلك الشركات مقومة أحيانا بعشرات أضعاف قيمها الحقيقية من خلال تجميل نتائجها المالية ومضاعفة رأسمالها عشرات بل حتى مئات المرات، ما يتيح لملاكها تحقيق مكاسب هائلة من مجرد طرح جزء من أسهمها في السوق بفضل علاوات الإصدار المتضخمة جداً التي تقرها هيئة السوق المالية دون تمحيص أو تدقيق بسبب هذا التطبيق لطريقة بناء سجل الأوامر.
هيئة السوق المالية، وبدلاً من محاربة هذه المبالغات التي أفقدت السوق مصداقيتها وتسببت في عزوف معظم المتداولين عنها، نجدها تصم أذنها عن أي نقد لأسلوب تطبيقها طريقة بناء سجل الأوامر التي ثبت فشلها التام ووضح عدم قدرتها على إعطاء تقييم مقبول لعلاوات الإصدار بل حتى تسببت في زيادة حدة تضخمها، كما يبدو جلياً من التراجع الحاد في أرباح تلك الشركات بعد طرحها مباشرة بنسب تصل أحياناً إلى 95 في المائة، ما يجعل تلك الشركات غير قادرة عمليا على صرف أرباح نقدية مستحقة بموجب أرباحها المعلنة قبل الطرح وتصبح مضطرة إلى التقدم بطلب زيادة رأسمالها كمخرج من هذا الوضع، والذي عادة ما توافق عليه هيئة السوق المالية كونها لا ترغب في مواجهة فشل طريقة بناء سجل الأوامر التي تعتمد على تقييم صناديق مضاربة لا يعنيها كثيراً مدى مناسبة علاوة الإصدار المقترحة وما يعنيها فقط هو كم سيبلغ سعر السهم في أول أيام التداول، لذا نجدها تدخل في عمليات تدوير لهذا السهم تخرج فيها بأرباح كبيرة ثم تتركه لمصيره المحتوم. بالتالي فإن كل ما حققته طريقة بناء الأوامر هو تسهيل مهمة من يرغبون في بيع جزء من شركاتهم بعشرات أضعاف قيمتها الإجمالية، كما يبدو واضحا من التراجع الحاد في أرباح معظم الشركات التي طرحت بعلاوات إصدار متضخمة وبسببه أصبحت تتداول الآن بسعر يقل كثيرا عن سعر طرحها، ما يؤكد حجم المبالغة التي تمت في علاوات إصدارها، ومع ذلك لا نرى أي جهد من جانب الهيئة للتحقيق فيما إن كان ملاك تلك الشركات ومستشاريها الماليين ومراجعي حساباتها قد ارتكبوا مخالفات لا يجيزها نظام السوق المالية، وبدلاً من ذلك نجد أن الهيئة تتجاهل كل نقد لطريقة بناء سجل الأوامر وتصر على تطبيقها بالأسلوب نفسه الذي ثبت فشله مرة تلو أخرى.
إن سوقنا المالية في أمس الحاجة إلى عملية إصلاح عاجلة تنهي ما تعانيه من ممارسات أفقدتها مصداقيتها، وتسببت في عزوف معظم المتداولين عنها، خاصة أن لذلك انعكاساته الخطيرة على مستقبل اقتصادنا الوطني وقدرته على النمو وتنويع قاعدته الإنتاجية. ففي ظل الأداء الضعيف للسوق، أصبح من غير الممكن طرح مشاريع استراتيجية ضخمة تستفيد من النمو الهائل في السيولة المحلية الناتج عن الارتفاع الكبير في الإنفاق الحكومي، ما زاد من الضغط على أسعار العقارات وتسبب في ارتفاعها بشكل هائل ألحق بالغ الضرر بأفراد المجتمع وزاد من صعوباتهم المالية، كما ينذر بحدوث فقاعة عقارية شبيهة بفقاعة الأسهم التي انفجرت في شباط (فبراير) 2006. فرغم أن جزءا لا بأس به من شركات السوق تتداول حالياً بمكررات ربحية تقل عن 15 مكررا وهو ما يعادل عائد يزيد على 6.5 في المائة، وهي نسبة عالية جدا في ظل معدلات الفائدة المتدنية حالياً، إلا أن السوق بسبب تفشي عمليات المبالغة في علاوات الإصدار ونحوها من ممارسات فقد فشلت في اكتساب ثقة المتداولين من جديد، وبالتالي استقطاب فائض السيولة في اقتصادنا، ما حد من إمكانية طرح شركات جديدة ذات قيمة حقيقية لاقتصادنا بدلا من هذه الشركات الورقية المبالغ في تقييمها التي تتبخر وتتلاشى قيمتها السوقية بعد التداول بفترة قصيرة، وجعل معظم المستثمرين لا يثقون بهذه السوق ولا بالأسلوب الذي تدار به، وبالتالي يرون أن استثمار مدخراتهم في سوق العقار أكثر أمنا، وهو ما ينذر بكارثة ما لم نصلح وضع سوقنا المالية عاجلا.