تزاوج الاقتصاد والبحث عن المظلة الشرعية والحماية السياسية
برزت ظاهرتان تتعلقان بحركة المصرفية الإسلامية خلال العقود الأربعة الماضية: الأولى هي صعود قوة جديدة لتحالف علماء الفقه والمصرفيين، والأخرى هي ابتكار آليات مصرفية حديثة. وترتبط الظاهرتان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً إذ إن إيجاد آليات جديدة يعتبر سبباً ونتيجة ــ في آن واحد ــ للتحالف المشار إليه. كما أنها ترسم إطار التوجهات المستقبلية لهذه الحركة لعقود مقبلة.
ولد هذا التحالف رسمياً في منتصف سبعينيات القرن الماضي, وبالتحديد في تجربة إنشاء بنوك إسلامية في مصر والأردن؛ فقد احتاجت التجربة إلى إعفاءات خاصة من بعض اللوائح المصرفية وهو ما دعا للاستعانة بعلماء الشريعة. وولد بهذا أول تحالف سياسي نتج عنه إنشاء هيئة شرعية بعد أن كانت مجرد لجنة استشارية في مرحلة الإعداد. وفيما عدا باكستان وإيران والسودان فإن تجارب إنشاء بنوك إسلامية كانت مبادرات فردية دون رعاية الحكومات وإن كان بموافقتها. وكان أصحاب المبادرة من رجال المال يسعون للبحث عن تحالفات مع علماء مقبولين للحكومات والعامة في آن واحد. وعلى سبيل المثال فقد وجد الأمير محمد الفيصل ضالته في شخص مفتي الديار المصرية عند إنشاء بنك فيصل في مصر. فكان التحالف بين العلماء وأصحاب المال, ذلك أن المفتي قادر على إضفاء الشرعية والقبول دون أي آثار سلبية على العلاقة مع الحكومة. وقد أصدر الرئيس المصري السابق أنور السادات قانوناً خاصاً للسماح بإنشاء وإدارة أول بنك إسلامي. ولم يحبذ الفيصل التعامل مع حركة الإخوان المسلمين, نظراً لأنها ــ وإن كانت ستوفر له بعض المصداقية التي يرمي إليها ــ إلا أنها ستجر على البنك ويلات بسبب موقف الحكومة المصرية منها.
والأمر نفسه في الأردن عندما تقدم سامي حمود بفكرة إنشاء بنك إسلامي، إلا أنه لم يكن يحتاج إلى مجرد إضفاء الشرعية, بل كان يبحث أيضاً عن الدعم المادي, فكان التحالف بينه من ناحية وبين وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف ومجموعة من الممولين على رأسهم الشيخ صالح كامل من ناحية أخرى. وقد نال البنك المصداقية بالتعاون الذي تم مع الأوقاف والإفتاء وبلغ مداه بتعيين المفتي الأسبق في الهيئة الشرعية للبنك.
ويرتبط انتشار البنوك الإسلامية والتوسع فيها بانضمام عديد من الفقهاء إليها. وحتى عندما ظهرت الصناديق الاستثمارية الإسلامية الدولية التي تتم إدارتها عن طريق مصرفيين غربيين وسماسرة وبيوت تمويل ــ استعانت أيضاً بعلماء الشريعة لتكتسب المصداقية اللازمة لاجتذاب العملاء.
وتشير الدراسة إلى أن دور علماء الشريعة يختزل في كثير من الأحيان إلى الناحية الدعائية فحسب؛ ذلك أنهم في هذه الحالة لا يشاركون في صناعة القرار, حتى أن بعض القرارات يتم تمريرها دون الرجوع إلى الهيئات الشرعية. وتعمل البنوك على الاستفادة منهم في مجال العلاقات العامة بصورة أكبر. ويدرك المصرفيون أن تحالفهم مع العلماء يخدم إلى أقصى حد استمرار أعمالهم، وبدون هذا التحالف فإن العواقب ستكون وخيمة على تلك الأعمال.
آليات جديدة
وقد تمخض التحالف بين علماء الشريعة والمصرفيين عن آليات جديدة في العمل المصرفي لم تكن معروفة من قبل. وقد استفاد المصرفيون أيما استفادة من التحالف مع علماء الشريعة, حيث قوّى هذا التحالف من مركزهم عن طريق المنتجات الجديدة التي أسهم العلماء في إيجادها بحسب الدور المفترض فيهم. وأسهم التحالف أيضاً في وضع منظور جديد للعمل المصرفي وهو البعد الأخلاقي في عملية اختيار الاستثمارات. ويرى الباحث أن الجانب الأخلاقي يعد جوهريا في التعاملات الإسلامية, حيث إن أحكام الشريعة تدعو لمراعاة البعد الأخلاقي. وكانت المصرفية الإسلامية التي قامت بتعاون العلماء والعاملين في المصرفية التقليدية بمثابة الإطار الذي يحدد الأبعاد الأخلاقية للتعاملات المالية.
وقد وسع هذا الإطار مفهوم التعاملات الإسلامية من مجرد تحريم الربا إلى ما هو أعم من ذلك, حيث إن البنوك الإسلامية لا تمول أو تستثمر في أي سلع أو خدمات لا تتفق مع أحكام الشريعة. وبناء على هذا فإن تمويل تجارة التبغ أو القمار أو المخدرات أو السلاح أو الدعارة تعد خارج إطار عمل البنك الإسلامي.
ويتناول الكاتب في هذا الإطار ما يتردد عن مزاعم تمويل البنوك الإسلامية للإرهاب, مشدداً على أن تلك المزاعم إنما هي محاولات لهز الثقة بالمصرفية الإسلامية بشكل عام. ويشير إلى أن أياً من الذين يوجهون تلك الاتهامات لم يقدم أي دليل على تلك المزاعم.