توجهات استراتيجية لتحالف أعضاء الهيئات الشرعية ورجال المال والأعمال

توجهات استراتيجية لتحالف أعضاء الهيئات الشرعية ورجال المال والأعمال
توجهات استراتيجية لتحالف أعضاء الهيئات الشرعية ورجال المال والأعمال

أظهرت تجربة المصرفية الإسلامية تحالفاً استراتيجياً بين علماء الشريعة وبين المصرفيين ورجال المال. وقد حقق هذا التحالف مكاسب لكلا الطرفين, كما أشارت ورقة بحثية بعنوان "التوجهات الاستراتيجة في الحركة المصرفية الإسلامية" للخبير الاقتصادي منذر قحف.
وأشارت إلى أن التحالف الاستراتيجي بين علماء الفقه و"البرجوازية الإسلامية" نجح في إيجاد قوة جديدة من الناحية الاجتماعية السياسية في الدول الإسلامية. ويبدو تأثير هذا التحالف على المدى الطويل على المصرفية الإسلامية وحركة المصرفية بشكل عام.

تتضافر عدة عوامل وراء تحالف العلماء والأغنياء. بالنسبة لأصحاب المال الذين يستثمرونه في أنشطة مطابقة للشريعة, فإنهم يجدون هذا التحالف فرصة بالنسبة لهم كي يقوم العلماء بإقناع العملاء بالتعامل مع البنوك الإسلامية الناشئة. وتتضح أهمية هذا الأمر في ظل التشكك الذي ظل يخيم على المسلمين إزاء التعامل مع قطاع البنوك بشكل عام. وقد أظهرت دراسة أجراها البنك الأهلي التجاري في السعودية أن أكثر من ثلث المتعاملين مع البنوك التقليدية ينوون التحول إلى البنوك الإسلامية طالما تأكدوا أن منتجاتها مطابقة للشريعة بشكل كامل. وقد تمت الاستفادة من هذا التحالف في مجال العلاقات العامة, حيث كانت حاجة أصحاب المال للعلماء كبيرة لتوضيح المكاسب التي تجنيها تلك الصناعة, وذلك في وسائل الإعلام أو في الندوات والنقاشات المتعلقة بالمقارنة بين البنوك التقليدية والإسلامية، وكذلك عند عرض أي منتجات على البنوك المركزية. من جانب الفقهاء فقد تحققت مكاسب من التحالف تمثلت في تطبيقهم قواعد الفقه التي ظلوا يقومون بتدريسها نظرياً لسنوات. كما أن التحالف الجديد أسهم في إحياء التعاملات الإسلامية. ولا يغفل الجانب المادي, حيث تحققت مكاسب مادية للفقهاء العاملين في الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية. وأسهم هذا التحالف أيضاً في تعزيز مكانة علماء الدين في المجتمع بصفة عامة وفي القطاع المصرفي بشكل خاص, حيث تبوأ الفقهاء مراكز كبيرة في هذا القطاع, حتى أن منهم من تولى منصب نائب محافظ بنك مركزي.

توجهات المصرفية الإسلامية في ظل التحالف
نشأ عن هذا التحالف ظهور توجهات جديدة من شأنها أن تؤثر في تلك الصناعة وفي المجتمع الإسلامي بشكل عام. كما أن انتشار البنوك التي تعمل وفقاً لأحكام الشريعة من شأنه إذابة الجليد وإحداث حراك في مستقبل المصرفية العالمية. وقد أثبت هذا التحالف أن الانتشار الذي حققته البنوك الإسلامية خلال العقود الثلاثة الماضية والذي بلغ نموه 10% لم يكن أمراً مفاجئاً, بل إنه نتاج منظومة عمل جادة.

وتشير الدراسة إلى أن أهم توجهات المصرفية الإسلامية أن التحالف بين العلماء والمصرفيين نجح في هيكلة وإدارة أنماط مصرفية حديثة. وفي البداية لم يكن هناك إلا نمط مصرفي واحد وهو المضاربة التي مهدت الطريق أمام ظهور البنوك التجارية الإسلامية. ولكن التحالف المشار إليه أدخل عديدا من الصيغ في منظومة العمل المصرفي ومنها الإجارة والسلم وغيرهما. وبمرور السنوات بدأ التحالف في صياغة عقود جديدة, وهو ما يتوقع ألا يتوقف, حيث يستمر التعاون بين الطرفين لابتكار أنماط مصرفية متفقة مع الشريعة الإسلامية. وقد بلغ هذ التعاون سوق الدين العام، وتمكن من تطوير أدوات تمويل عام قصيرة الأجل وأخرى طويلة الأجل, كما هو الحال في السودان وإيران بمساعدة ومباركة صندوق النقد الدولي. وقد قوبلت الأنماط المصرفية المستحدثة بترحيب عالمي، كما أسهمت في تسهيل دخول البنوك الإسلامية في ركب الحركة المصرفية العالمية. وثاني التوجهات التي تشير إليها الدراسة هي انتشار البنوك الإسلامية الذي أغرى الباحثين عن الربح بالدخول في تلك السوق المتنامية باطراد.

وقد بات هذا من العناصر الرئيسة في انتشار بنوك المعاملات الإسلامية. وقد اضطلع الفقهاء بدور كبير وفاعل في تقديم تلك البنوك للعامة, بحيث أصبح الجميع يدرك الفارق بين البنوك التقليدية والإسلامية, مما أسهم بدوره في سرعة انتشار الأخيرة في أغلبية الدول الإسلامية, بل والدول التي لا تتمتع بأغلبية مسلمة. وجاء هذا النمو عن طريق التوسع في الأسهم والأصول والودائع والاستثمارات، وكذلك عن طريق افتتاح فروع متعددة كلما أمكن. ويشير أكثر من مسح أجري على هذه البنوك إلى أن نموها يتزايد مقارنة بالبنوك التقليدية. كما أن البنوك الإسلامية سحبت البساط في عديد من الدول حتى أن نظيرتها التقليدية تحولت إلى بنوك تعمل وفقاً للشريعة كما في إندونيسيا على سبيل المثال لا الحصر. ويبدو التحول جلياً في منطقة الخليج العربي التي تحولت إلى المصرفية الإسلامية بصورة كبيرة. وترى الدراسة أن معدل النمو في تلك البنوك خلال العقود الثلاثة الماضية يشي بأنها تسير على الطريق الصحيح.

وثالت ما أفرزه تحالف الفقهاء والمصرفيين هو إثراء البحث الشرعي, حيث تسبب ظهور المصرفية الإسلامية في النهوض بالأبحاث المتعلقة بالمعاملات وفقاً لأحكام الشريعة. وقد علق على ذلك الراحل الشيخ مصطفي الزرقا حين أشار إلى أن مجال البحث الفقهي كان له قصب السبق في النهضة التي شهدتها الدراسات الإسلامية بشكل عام منذ بداية القرن الماضي. وقد انصبت أغلبية تلك البحوث على المجال المصرفي في العقود الثلاثة الماضية. وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات مؤكدة إلا أن هذا التوجه كان بارزاً على مستوى المطبوعات الأكاديمية ورسائل الماجستير والدكتوراة. يضاف إلى هذا الحراك الذي يشهده هذا المجال على مستوى ورش العمل والندوات والمؤتمرات التي تناقش القضايا المصرفية من منظور فقهي. ومن هنا يبدو جلياً الدور الذي يقوم به تحالف العلماء والمصرفيين حيث يسهم في تجديد الآراء الفقهية وفتح باب الاجتهاد، كما أنه قام بتوصيف العمليات المصرفية المعاصرة من منظور شرعي. واتسع نطاق وجود العلماء في القطاع المصرفي حيث لم يعد وجودهم لمجرد تنقية المعاملات من الربا فحسب, بل إن أغلبية أعضاء الهيئات الشرعية في البنوك الإسلامية أصبحوا يلمون بكافة العمليات المصرفية. كما أنهم يدركون أدق تفاصيل تلك التعاملات وإجراءاتها والطرق المتبعة فيها, وذلك للخروج برأي فقهي في تلك القضايا المستحدثة بالنسبة للفقهاء. ولا يتوقف سيل تلك المسائل المستحدثة التي توضع أمام علماء الفقه يومياً كلما جدّت أنماط جديدة في التعاملات المصرفية.

رابع نتائج تحالف العلماء والمصرفيين هو زيادة الترابط الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات الإسلامية من خلال المشروعات التي يكون فيها المستفيدون ملاكاً للأصول المنتجة التي وفرتها لهم برامج التمويل الموجهة لأصحاب المشروعات الصغيرة مثل مشروعات الحرفيين، وسائقي سيارات الأجرة، وبرامج التمويل العقاري وغيرها. وبطبيعة الحال فإن العلماء يشجعون على توفير تلك المشروعات التي تتفق مع مقاصد الشريعة. وعلى سبيل المثال, ففي السودان قام البنك الإسلامي في غرب السودان بتنفيذ برنامج ناجح لتمويل صغار المزارعين والحرفيين. وتلا ذلك برنامج مشابه قام به بنك فيصل السوداني لتمويل المشروعات الصغيرة. وفي تجربة رائدة قام بنك الأردن الإسلامي بتنفيذ مشروع لمساعدة سائقي سيارات الأجرة ليصبحوا ملاكاً للسيارات التي يعملون عليها, وذلك من خلال التمويل عبر عقود المشاركة. وقام بنك عرفة والبنك الإسلامي في بنجلاديش بعمل برامج تمويل للمشروعات متناهية الصغر. وعلى الرغم من أن تلك التجربة كانت متواضعة إلى جانب بنك جرامين ــ الذي يطلق عليه بنك الفقراء ــ إلا أن المستفيدين من تلك البرامج كانوا يحققون استفادة تتلخص في أن بنك جرامين كان يتقاضي فائدة سنوية تقدر بـ %22, وهو ما لا يحدث في البرامج التي تمولها البنوك الإسلامية.

ويشير الباحث إلى أنه من خلال جولاته العديدة في البنوك الإسلامية في دول مختلفة واطلاعه على كواليسها, يمكنه أن يؤكد أن البنوك الإسلامية تعمل على خدمة الطبقتين المتوسطة والدنيا. ويضرب مثالاً بحالة السودان قبل انقلاب 1989, حيث رصد اعتزام خمسة من البنوك الستة التي كانت تعمل هناك آنذاك تكوين طبقة جديدة في المجتمع تمثل رجال أعمال غير تقليديين.

أما آخر ما ترصده الدراسة عن توجهات التحالف بين الفقهاء والمصرفيين فهو العمل على خلق جو من التقارب السياسي بين الحركة الإسلامية والحكومات في الدول الإسلامية عموماً والدول العربية بشكل خاص. وتحرص بعض البنوك الإسلامية على الاستعانة بفقهاء يكونون مقبولين بالنسبة للحكومات من ناحية والشعوب من ناحية أخرى، ويندر وجود بنك يستعين بشخصية متطرفة لتكون ضمن الهيئة الشرعية لهذا البنك. كما لا تميل المؤسسات المالية للتحالف مع العلماء المحسوبين على الحكومات لأن هذا يفقدهم المصداقية في أعين العملاء المنتظرين أو الفعليين. والحال نفسه بالنسبة للعلماء الذين يتحدثون باسم الحركات الإسلامية المختلفة, وذلك لتجنب أية مواجهات مع الحكومات.

وتخلص الدراسة إلى أن البنوك الإسلامية استطاعت إلى حد كبير إعادة صياغة هيكلة القوة وتوزيعها في عدد من الدول. ويلاحظ أن البنوك الإسلامية في عديد من الدول استطاعت أن تغير خريطة القوة السياسية الاجتماعية وأن تكوّن مركز قوة جديدا رغم صغر حجمه. ويكون العلماء فيه جزءاً مهماً حيث إنهم من ناحية مسؤولون عن أسلمة الاقتصاد سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية، ومن ناحية أخرى فإنهم يمثلون الحركة الإسلامية المعتدلة. ويضم مركز القوة الجديد طبقة من أغنياء المسلمين من المصرفيين والتنفيذيين وعملاء تلك البنوك والمستفيدين من المشروعات التي تقدمها

الأكثر قراءة