من يأخذ الأولية في التحكيم في حال تعثر أدوات التمويل الإسلامي؟
صناعة التمويل الإسلامي ما زالت في طور التجريب والتعلم, ومن الأمور المرتبطة التي تستلزم النظر اختبار حالات التعثر وكيفية التعامل معها, ومن النواحي القانونية أيضا. إن استباق الأمر بوضع سيناريوهات منتظمة للأدوات التمويلية من شأنه أن يسهل التعامل بمهنية مع أي مستجدات, لا أن نطلب العون في حينه دون تخطيط مناسب.
من الأمور التي من الممكن ملاحظتها بسهولة البعد القانوني لأدوات التمويل الإسلامي, وخاصة الصكوك على سبيل المثال. وفي حال تتبع اصدارات الصكوك نجد أن المهتمين أو المعنيين الفاعلين في هذا المجال هم من أوروبا وتحديدا من بريطانيا، وأفضل مكاتب الاستشارات القانونية في هذا الاتجاه من النادر أن تجد بينها مكتبا عربيا، ولعل في ذلك تقصيرا من ناحية الرؤية العامة لمستقبل أدوات التمويل الإسلامي ومن ناحية التخطيط العام للصناعة, ومن يقف خلف ذلك هم أصحاب القرار ومن بيده رأس مال كاف للاهتمام بالبنى التحتية لهذه الصناعة.
إن ركائز بنية الصناعة المالية الإسلامية تتخذ الأبعاد الثلاثة التالية: أولا البعد العملي من إدارة رأس المال وكفايته، وإدراة السيولة، والمخاطر وغيرها من أمور تقنية تتعلق بنجاح العمل على الصعيد المهني. الأمر الثاني البعد الشرعي وتهيئة رأس المال البشري بما يتوافق مع احتياجات السوق التي تعبر ــ ولكن بصوت مختنق ــ عن حاجتها للمتخصصين في فقه المعاملات المالية الإسلامية وعلم المصارف، والتأمين، وأسواق رأس المال. والبعد الثالث هو البعد القانوني من تشكيل للعقود والبت في التحكيم الرئيس في حال حدوث تعثر أو خلاف من النوع المعتاد الذي نشهده غالبا في المعاملات التجارية والمصرفية. إن الأبعاد الثلاثة تشكل مثلثا رئيسيا للاهتمام بثبات البنية التحتية للصناعة على المديين البعيد والقصير، وتشكيل استراتيجيات محددة للنهوض بالأبعاد الثلاثة, على تعادل أهميتها بالنسبة لصناعة المال الإسلامي يشكل تحديا أمام التخطيط القائم على عدم التكامل بما يقارب العشوائية دون ترتيب وتركيز للأولويات.
بالعودة إلى موضوعنا الرئيسي وهو البعد القانوني نجد أن التحكيم الأخير يكون للمحاكم المختصة، والمحاكم المختصة في الأنظمة المختلطة لا تمتلك مرجعية شرعية ولا يعتبر رأي الهيئات الشرعية بالرغم من أهميته في مراحل تأسيس ونجاح المشروع المالي الإسلامي على اختلاف أصنافه وقطاعاته سواء المصرفية، أو التأمينية أو أسواق رأس المال، وأدواته لا تأخذ موقعها الصحيح في حال الاختلاف الذي قد يؤول بالمشروع للتصفية, على سبيل المثال في حال تصفية شركات التكافل ــ إن حدثت ــ لتعدد الآراء الشرعية دور في البت بأولوية رجوع الدائنين في حال التصفية، وبالرغم من أن الهيئات التنظيمية الدولية المعنية تبحث في هذا الاتجاه كمجلس الخدمات المالية الإسلامية, إلا أن البعد القانوني يأخذ مداه في البت الأخير.
إن ماليزيا الدولة الرائدة في اتجاه صناعة المال الإسلامية على سبيل المثال تواجه هذه الإشكالية, إلا أنها ما زالت تصل إلى طريق مسدود أو على الأقل غير واضح في البت في المسائل المتعلقة بالمعاملات المالية القائمة على اختلاف أنواعها, ففي نهاية الأمر يعود الخلاف إلى الشكل القانوني للمؤسسات التقليدية ويتولى التحقيق والبحث محاكم تحت مظلة القانون التجاري ولا علاقة للهيئات الشرعية إلا في حدود الاستشارة بالرغم من تداخل الرأي الشرعي مع تفاصيل النواحي التأسيسة والممارسة وذلك بنص القانون الذي يشتراط وجود هيئات شرعية معلنة في هذه المؤسسات للسماح بتأسيسها, إلا أنها لم تتطرق لموقع الشريعة في حالات التعثر والعجز أو الاختلاس على سبيل المثال. والتعامل مع هذه المسألة في الغالب يتم من خلال قانون الشركات والمحاكم المختصة في هذا الاتجاه، وهناك بعض الاقتراحات تتضمن تشكيل قانون للمعاملات المالية الإسلامية من ضمنه هيئة شرعية والأمر ما زال في طور المقترح.
إن التكامل الإسلامي ــ إن شئت أن تسميه ــ يتطلب التداخل الشرعي في جميع الحالات لضمان الجودة الشرعية واستمرارية الرقابة الشرعية، وفي حال استمرار المعالجات القانونية بالشكل السابق في الأنظمة المختلطة يبقى العمل المالي الإسلامي منقوصا ويواجه تحديا فريدا من ناحية الرأي الشرعي الذي يدعم وجود المؤسسات المالية الإسلامية ثم يتم تجاهله في اللحظات الحرجة.
من ذلك نستطيع القول إن التحديات التي يواجهها العمل المالي الإسلامي في كافة قطاعاته لا تقتصر على المحددات الشرعية التي في الغالب لها أسبابها، وإنما ترتبط ارتباطا وثيقا بالمحددات القانونية, ومن ذلك على سبيل المثال التعامل مع تعثر الصكوك إذ ستندرج المعالجة القانونية في الغالب مع رقابة واضحة من أسواق رأس المال والبنوك المركزية دون تطبيق حقيقي لمفهوم العمل المالي الإسلامي المرتبط بالشراكة، فالمراهنة الواقعية في العمل المالي الإسلامي الحالي لا ترتبط حقيقة بركائز العمل المالي الإسلامي القائمة على مفاهيم كالأمانة والشراكة في حال الربح والخسارة, وإنما تُختصر لتكون موجودة على الأقل في الوقت الحالي فقط في حال توالي النجاحات, وفي ذلك مجازفة كبيرة ومخاطر أكبر على سمعة العمل المالي الإسلامي الذي بدأ بخطوات ثابتة.
إن بناء العقود المالية المتعلقة بالصكوك في الغالب يأتي من مؤسسات قانونية غربية تتبع في مفهومها القانون الإنجليزي, ونظرا لقلة الخبراء القانونيين المسلمين في هذا المجال فإننا نستسلم استسلاما تاما في كثير من الأحيان لما ورد فيها دون تدقيق مع القوانين المحلية وبأسلوب مهني وقانوني، وبذلك إن شئنا أم أبينا تبقى أعناقنا في أيديهم من ناحية الهيكلية القانونية والإلزام في نهاية المطاف لطبيعة العقد بما يتناسب مع التشريعات الوضعية في الأنظمة التقليدية كما حدث مع حالات من تعثر الصكوك في الأزمة الأخيرة. لقد عقدت عدة مؤتمرات وجلسات استماع من أجل الخروج بصياغة تتناسب مع حجم التحدي إلا أنها مازالت تواجه صعوبات في الإخراج النهائي نظرا لأن البيئة القانونية من الصعوبة والتعقيد بحيث لا يرتبط الأمر فقط بإجراءات تعديل أو إقرار قوانين جديدة بقدر ما يرتبط بسؤال: لمن الحكم اليوم .. للشريعة أم للقانون الوضعي؟ وأي تعارض بين الاثنين في حال المعاملات المالية الإسلامية.