الثراء المحفوف بالمخاطر

يعمل العجز المالي المتضخم والديون العامة الهائلة اليوم على تغذية المخاوف بشأن المخاطر السيادية في عديد من البلدان المتقدمة. كانت المخاطر السيادية متركزة تقليدياً في اقتصاد الأسواق الناشئة. ففي العقد الماضي أو نحو ذلك عجزت روسيا والأرجنتين والإكوادور عن سداد الديون العامة، في حين عمدت باكستان وأوكرانيا وأوروجواي إلى إعادة الهيكلة القسرية لديونها العامة تحت تهديد العجز عن سداد الديون.
ولكن الاقتصاد في الأسواق الناشئة ـ فيما عدا استثناءات قليلة في أوروبا الوسطى والشرقية ـ نجح في تحسين الأداء المالي من خلال تقليص العجز الإجمالي، وإيجاد فوائض أولية ضخمة، وبالتالي تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتقليل تناقضات العملة واستحقاق السداد في الديون العامة. ونتيجة لهذا فقد أصبحت المخاطر السيادية اليوم تفرض مشكلة أعظم في البلدان المتقدمة وليس في أغلب الأسواق الناشئة. والواقع أن تخفيضات وكالات التصنيف والتقييم، واتساع رقعة المخاطر السيادية، وفشل مزادات الديون العامة في بلدان مثل المملكة المتحدة، واليونان، وإيرلندا، وإسبانيا، كل ذلك كان بمثابة تذكِرة صارخة في العام الماضي بأن البلدان المتقدمة اقتصادياً إذا لم تبدأ بترتيب وتوفيق أوضاعها المالية، فإن المستثمرين، ومراقبي أسواق السندات، ووكالات التصنيف والتقييم قد تتحول من صديق إلى عدو. وكان الركود الشديد، مصحوباً بالأزمة المالية أثناء الفترة 2008/2009 سبباً في ازدياد المواقف المالية في البلدان المتقدمة سوءاً، وذلك نظراً للإنفاق على عمليات التحفيز، وانخفاض العائدات الضريبية، وتطويق وتقييد القطاعات المالية هناك.
وكان التأثير أعظم في البلدان التي لديها تاريخ من المشكلات المالية البنيوية، والتي تبنت سياسات مالية متساهلة، وتجاهلت الإصلاحات المالية أثناء سنوات الازدهار. وفي المستقبل قد يتسبب التعافي الاقتصادي الضعيف والشيخوخة السكانية في زيادة أعباء الديون في عديد من البلدان المتقدمة، بما في ذلك الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، واليابان، وعديد من بلدان منطقة اليورو. وما ينذر بشر مستطير هو أن تحويل هذا العجز المالي إلى نقود أصبح تحولا إلى نمط معتاد في العديد من البلدان المتقدمة، في حين بدأت البنوك المركزية هناك في تضخيم القاعدة النقدية عن طريق عمليات الشراء الضخمة للأوراق المالية الحكومية قصيرة الأجل وطويلة الأجل. وفي النهاية سيؤدي العجز المالي المحول إلى نقود إلى انهيار مالي و/أو ارتفاع في توقعات التضخم التي قد تؤدي إلى ارتفاع حاد في عائدات السندات الحكومية طويلة الأجل ومزاحمة التعافي الاقتصادي المؤقت الذي كان هشاً حتى الآن.
إن التحفيز المالي أمر محفوف بالمخاطر. ذلك أن صناع القرار السياسي يُلعَنون إذا ما قاموا بالتحفيز المالي ويُلعَنون إذا لم يقوموا به. وإذا عملوا على إزالة الحوافز قبل الأوان من خلال زيادة الضرائب، وخفض الإنفاق، واجتثاث السيولة الفائضة، فقد يعود الاقتصاد إلى الركود والانكماش. ولكن في حالة السماح للعجز المالي المحول إلى نقود بالارتفاع، فإن الزيادة الناجمة عن ذلك في العائدات طويلة الأجل من شأنها أن تعمل على خنق النمو. لقد أرغمت الأسواق البلدان ذات المواقف المالية الأولية الأضعف ـ مثل اليونان، والمملكة المتحدة، وإيرلندا، وإسبانيا، وآيسلندا ـ على تنفيذ عمليات اندماج مالية مبكرة. ورغم أن هذا قد يكون مضاداً للتضخم، فإن المكاسب التي ستتحقق فيما يتصل بمصداقية السياسة المالية قد تمنع ارتفاعاً ضاراً في عائدات السندات الحكومية طويلة الأجل. لذا فإن الدمج المالي المبكر قد يكون توسعياً إذا وضعنا العوامل في الحسبان كافة. أما بالنسبة لبعض بلدان منطقة اليورو ـ إيطاليا، وإسبانيا، واليونان، والبرتغال ـ فإن مشكلات الديون العامة تأتي إلى جانب خسارة القدرة على المنافسة الدولية. فقد خسرت هذه البلدان بالفعل حصص أسواق التصدير إلى الصين وغيرها من البلدان الآسيوية ذات القيمة المضافة المنخفضة والعمالة الكثيفة. ثم أدى عقد من نمو الأجور الاسمية الذي تجاوز مكاسب الإنتاجية إلى ارتفاع في تكاليف وحدة العمل، وتقدير سعر الصرف الحقيقي، والعجز الضخم في الحساب الجاري. ولقد أدى الارتفاع الحاد الأخير الذي سجله اليورو إلى تفاقم حِدة مشكلة القدرة التنافسية، الأمر الذي أدى بدوره إلى الحد من النمو وتضخيم الخلل المالي. لذا فإن السؤال المطروح الآن هو إذا ما كانت بلدان منطقة اليورو هذه ستكون مستعدة للخضوع لعمليات الدمج المالية المؤلمة والتخفيض الداخلي الحقيقي من خلال الانكماش والإصلاحات البنيوية من أجل زيادة نمو الإنتاجية ومنع الانتهاء إلى النتيجة التي انتهت إليها الأرجنتين: الخروج من الاتحاد النقدي، وخفض قيمة العملة، والعجز عن سداد الديون. ولقد أظهرت بلدان مثل لاتفيا والمجر الاستعداد للقيام بهذا. ولا أحد يستطيع أن يجزم بعد إذا ما كانت اليونان، وإسبانيا، وغيرهما من بلدان منطقة اليورو ستتقبل مثل هذه التعديلات القاسية.
وقد تكون الولايات المتحدة واليابان من بين آخر البلدان التي قد تواجه غضب مراقبي أسواق السندات: فالدولار هو العملة الاحتياطية العالمية الرئيسة، وما زال تكديس الاحتياطيات الأجنبية ـ أغلبها في هيئة سندات تصدرها حكومة الولايات المتحدة ـ مستمراً بوتيرة سريعة. واليابان بلد دائن وقادر على تمويل ديونه محلياً إلى حد كبير.
غير أن المستثمرين سيصبحون أكثر حذراً حتى في التعامل مع هذه البلدان إذا تأخرت عمليات التعزيز المالية الضرورية. والولايات المتحدة بلد مدين يعاني الشيخوخة السكانية، هذا فضلاً عن الإنفاق المستحق غير الممول على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، والتعافي الاقتصادي الهزيل، والمخاطر المتمثلة في استمرار تحويل العجز المالي إلى نقود. واليابان أيضاً تعاني مشكلة الشيخوخة السكانية، والركود الاقتصادي هناك يعمل على تقليص المدخرات المحلية، في حين اقترب الدين العام من 200 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. والولايات المتحدة تواجه أيضاً قيوداً سياسية فيما يتصل بالتعزيز المالي: فالأمريكيون يوهمون أنفسهم بأنهم قادرون على الإنفاق الاجتماعي على غرار الأسلوب الأوروبي في حين يحتفظون بمعدلات ضريبية منخفضة، كما كان الحال في عهد الرئيس رونالد ريجان. بيد أن الناخبين الأوروبيين مستعدون على الأقل لدفع ضرائب أعلى على الخدمات العامة.
وإذا خسر الديمقراطيون في أمريكا في انتخابات التجديد النصفية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام، فإن الخطر قائم في استمرار العجز المالي مع استخدام الجمهوريين لحق النقض ضد زيادة الضرائب في حين يستخدم الديمقراطيون حق النقض ضد خفض الإنفاق. وعلى هذا فإن تحويل العجز المالي إلى نقود يشكل سبيلاً إلى المقاومة الأقل: ذلك أن تشغيل المطابع أسهل كثيراً من خفض العجز المؤلم على الصعيد السياسي. ولكن إذا استخدمت الولايات المتحدة ضريبة التضخم باعتبارها وسيلة لخفض القيمة الحقيقية لدينها العام، فإن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تزايد خطر انهيار الدولار الأمريكي إلى حد كبير. ولن يقبل دائنو الولايات المتحدة الأجانب انخفاضاً حاداً في القيمة الحقيقية لأصولهم الدولارية نتيجة لخفض قيمة الدولار عن طريق التضخم وما يترتب على ذلك من انخفاض القيمة. إن الاندفاع غير المنضبط إلى المخرج من الممكن أن يؤدي إلى انهيار الدولار، وارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل، والعودة إلى الركود الشديد.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي