هل نحن نغرف من بحر؟
تتردد من وقت إلى آخر في وسائل الإعلام دعوة دول الخليج ''الثرية'' لمساعدة بعض الدول الفقيرة المجاورة اقتصادياً، على فرض أن تلك الدول النفطية لديها في الوقت الحاضر من الأموال ما يزيد على حاجتها. وهو أمر لا نستطيع إنكاره ولا إخفاءه، فمظاهر الترف والإسراف التي طرأت على حياة مُجتمعاتنا الخليجية ''الفقيرة سابقاً'' خلال العقود القليلة الماضية واضحة للعيان، بل إننا نُجاهر بها داخل بلادنا وخارجها، وأصبحت من الأمور التي يتندر بها القاصي والداني. والكثيرون من أمم الأرض يكادون يحسدوننا على ما منَّ الله به علينا من هذه الثروة ''المؤقتة''، رغم علم أهل العلم عندهم أن عمرها فعلاً قصير. والبعض منهم حتما لا يُدركون أن بلادنا الصحراوية كانت إلى عهد قريب من أفقر بقاع الأرض، نظراً لطبيعة جغرافيتها وقلة مواردها المائية والاقتصادية، وإننا إذا لم نحسن إدارة شؤوننا اليوم فإن مصيرنا سيعود إلى أسوأ مما كان عليه قبل عصر النفط لأسباب واقعية كثيرة، لعل من أهمها الزيادة الهائلة في عدد السكان ونضوب كميات كبيرة من المياه الجوفية، مع حدوث نُدرة هطول الأمطار خلال السنوات الأخيرة. ونحن، وإن كنا نعذر المُتطلعين إلى ثرواتنا ما دمنا نُشاهر بما لدينا من المال ونعيش حياة ترف غير مُقيَّد، إلا أن ذلك يدعونا إلى أن نُراجع أنفسنا ووضعنا الاجتماعي وما ستؤول إليه حالنا بعد فترة قصيرة في حساب الزمن. ومع ذلك، فسيشهد لنا التاريخ أننا نبذل أكثر من غيرنا لمساعدة الآخرين، احتساباً للأجر من الله الذي أفاء علينا بهذه النعم.
ونود هنا أن نسأل عن مفهوم الغِنى الذي يتمثل فقط في كمية المال أو الثروة التي يملكها شخص أو دولة ما، حتى لو كانت هذه الثروة مؤقتة ولها نهاية. وحالنا تُشبه الشاب الذي يرث مالاً وفيراً بعد وفاة والديه وهو عبارة عن نقد محفوظ في خزانة. والابن نشأ مُدللاً لا يُحسن الكسب ولا استثمار المال، فهو يُنفق منه بغير حساب ويعيش حياة مُرفَّهة، دون أن يُدرك أنه في يوم من الأيام سينفد ماله الذي ورثه عن أهله ويُفاجأ بأنه أصبح دون دخل يتقوت منه. وبطبيعة الحال سيجد نفسه فقيراً يطلب العون من الآخرين، ولكنه أيضا لن يسلم من الشماتة لأنه فرَّط في ثروته التي كان من المفروض أنه يعمل على إنمائها ويختار لحياته عيشة وسطية دون إسراف وتبذير. وهكذا حالنا نحن اليوم، فشعوبنا مُنغمسة في الترف، نستورد كل ما نحتاج إليه وغير ما نحتاج إليه من الخارج لأننا أمة مستهلكة وغير مُنتجة. وإن كان هناك أحياناً خلط أوراق عندما يتحدث المُختصون من الاقتصاديين عما يُسمونه تجاوزاً ''الناتج القومي'' وهم بطبيعة الحال يقصدون الدخل القومي، لأن الناتج القومي الحقيقي الذي لا يكاد يُذكر بريء من دخلنا السنوي الكبير الحاصل من بيع النفط، إلى جانب الغياب شبه الكامل للعمالة الوطنية المُنتجة في القطاع الخاص. وما عليك إلا أن تُشاهد أفخر أنواع المركبات التي تكتظ بها شوارعنا، وهي أيضا من الأنواع التي تستهلك أكبر كمية من الوقود الذي يُباع بأسعار بخسة على حساب دخل خزانة الدولة. ولم لا، ودخلنا من ثروتنا النفطية يزيد بكثير على حاجتنا الحقيقية لو أحْسنَّا إدارة صرفها وتوزيع الدخل، بدلاً من أن ''يتصاول المال'' نحو فئة قليلة من المجتمع بطرق شرعية وغير شرعية. ولعلنا نذكر قضية مشاريع مدينة جدة وحدها، وكيف أن الأموال الكبيرة التي كانت قد خُصِّصت من ِقبل ولاة الأمر - حفظهم الله - من أجل إنشاء مشاريع حيوية لصالح عموم أفراد المجتمع هناك، ولكنها وبقدرة قادر أُسيء استخدامها بواسطة منْ ظنوا أنهم ربما يكونون بعيدين عن المساءلة أو أن مرور الزمن سيُغطي على أخطائهم، ولكن الله كشف المستور بعد كارثة الأمطار واتضحت معالم تصرفات غير مقبولة على الإطلاق في بلد معروف بتمسك أهله بالقيم الإسلامية ومطلوب من مواطنيه التحلي بالإخلاص والأمانة وإتقان العمل. ونخشى أن تكون لدينا أكثر من جدة واحدة في مختلف مدننا وقرانا، وأنها فقط تنتظر حدوث كوارث طبيعية ـ لا قدر الله ـ حتى تنفضح الأمور وتظهر حالات إهمال ومخالفات مشابهة لما شاهدناه في جدة.
وعودة إلى عنوان موضوع المقال ونسأل أنفسنا، هل يا ترى من صالحنا على المدى البعيد أن نستمر في زيادة إنتاج ثروتنا الوحيدة وزيادة الصرف العام وكأننا نغرف من بحر؟ أبداً، بل إن ذلك لا يزيدنا إلا إسرافاً في جميع شؤون حياتنا ويُعطل تفكير وإبداع شبابنا، ولن يزيدهم إلا كسلاً وترهُّلاً. ولو لاحظنا من قراءة الصحف اليومية هذه الأيام لوجدنا أن الذين عبروا عن فرحتهم بضخامة الميزانية هم من الأغنياء ورجال الأعمال الذين ينتظرون نصيبهم منها، ناهيك عن الشعوب والحكومات الفقيرة المجاورة التي هي أيضا تُراقبنا وتود لو تُشاركنا في حلالنا وهم دون أي شك يعلمون أن دخلنا الحالي يفيض عن حاجتنا المعقولة، غير مُدركين أننا في الواقع نقتطع جُزءًا من نصيب الأجيال المقبلة، وهو ما سينعكس على مستوى دخلهم في وقت يكون عدد السكان على ظهر هذه الصحراء قد تضاعف عدة مرات. فهل نعي هذه الحقائق ونحاول أن نُغيِّر من نمط حياتنا وطبائعنا التي جُبلت على الإسراف في كل شأن من شؤون حياتنا، ونهتم أكثر بتربية أجيال جديدة مُنتجة تقبل بأخذ زمام الأمور من العمالة الأجنبية؟ وكثير من البلدان الأخرى تمتلك ثروات طبيعية وموارد اقتصادية كبيرة، زراعية وصناعية، إلى جانب ثرواتها البشرية الفريدة، تستطيع لو أرادت أن تُضاعف دخلها إلى حد يزيد على حاجتها المالية، ولكنهم لا يفعلون ذلك خوفاً من نزول الأسعار واحتمال حدوث تضخم نقدي غير مرغوب فيه وحفاظاً على ما لديهم من الثروات وعدم استنزافها، على الرغم من أن وضعهم الاقتصادي أفضل بكثير من وضعنا، ومستوى التعليم والتدريب ومشاركة كل فرد لديهم في عملية الإنتاج لا تُقارن بما لدينا. وأصدق تمثيل لما نحن عليه أن يُقال عنا إننا الأغنياء الفقراء. وألا ننسى أبداً شكر ربنا على ما منَّ به علينا من الأمن في دورنا والنعم الكثيرة التي تحتاج منا إلى حسن التصرف.