التعزير بالأعمال الخدمية
ليس سراً أن السجون اليوم لم تعد هي العقوبة المثلى لعديد من الجرائم التعزيرية, فقد صارت السجون في كثير من البلاد العربية وغيرها تشكل عبئاً لا يطاق على الأجهزة الحكومية؛ لأن أغلب العقوبات لا تكاد تخطئ هذه السجون, ولهذا تسعى الدول اليوم بين وقت وآخر إلى إفراغ هذه السجون من نزلائها قبل انتهاء محكومياتهم تحت ذرائع كثيرة, وكثير من عمليات الإفراغ لها آثارها السلبية إذا طالت أصحاب الجرائم الكبيرة, وأصحاب السوابق.
ومن هنا, فإنه يتأكد إعادة النظر في هذا النوع من العقوبات من أجل الحد منه, لتتسع السجون لأصحاب الجرائم والسوابق, وتضيق عن أصحاب الجنح والمخالفات, حتى لا تكون السجون هي العقوبة الأوفر حظاً من بين سائر العقوبات, ولأن السجون لم تعد تشكل عبئاً مالياً فقط, بل إنها في بعض الدول النامية أصبحت تشكل خطراً على سلوك بعض مرتكبي الجنح الخفيفة بمخالطتهم أصحاب السوابق, كما أنها أضحت تشكل مصدراً للدخل المحرم, ببيع المخدرات وترويجها داخل السجون..! لا.., بل السجون اليوم في بعض الدول أَصبحت منطلقاً لعمليات إجرامية تنفذ خارج السجن, وتدار من الداخل عبر الرؤوس المدبرة, لا كثرهم الله..! ومن هنا, يتأكد إعادة النظر في دراسة بدائل جديدة, تحد من عقوبة السجن, بحيث تكون حكراً على أصحاب الجرائم الكبيرة والسوابق, وتتمكن الأجهزة الحكومية من إحكام رقابتها داخل السجون.
إن العقوبات التعزيرية يجب أن تكون محققة للمصلحة العامة, ولتأديب الجاني وزجره, بالعقوبات المنسجمة مع حجم الجريمة, ومن حكمة الشارع أنه جعل لبعض الجرائم عقوبات محددة كجرائم القصاص والحدود؛ لأنها جرائم كبرى تنال من الضرورات الخمس بحظ وافر, ولهذا تكفل الشارع بوضع عقوباتها المناسبة؛ لئلا تضطرب أحوال الناس بعقوبات غير متكافئة لتلك الجرائم, ولم يحدد الشارع لجرائم التعزير عقوبات محددة, وذلك لأن الجرائم متنوعة ومتجددة, ولهذا عهد الشارع لولاة الأمور سن العقوبات المناسبة حسب عظم الجريمة وخفتها, وحسب اختلاف الزمان والمكان, وهذا يكشف عن عظمة الشريعة الإسلامية, حين فسحت المجال بتقنين العقوبات بما ينسجم مع حجم الجريمة بتطورها وتجددها, كجرائم غسل الأموال, وخطف الطائرات, وتفجير المنشآت, وسرقة الأعضاء البشرية.. إلخ, فليست عقوبة مخالفة أنظمة المرور, كعقوبات تلك الجرائم الكبيرة التي تستهدف المجتمع بأسره, قال العلامة ابن القيم ــ رحمه الله: «لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف, والقلة والكثرة.., جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور, بحسب المصلحة في كل زمان ومكان, وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم, فمن سوى بين الناس في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمة الشرع» أ.هـ.
إن ما تشهده السجون اليوم من أعداد غفيرة في كثير من الدول, تستدعي إعادة النظر في عقوبات بعض الجرائم الصغيرة, والتي يمكن أن يبتكر لها عقوبة مناسبة, تهيئ مرتكب المخالفة أو الجنحة ليعود مواطناً صالحاً في المجتمع. ولهذا انبرى عدد من المهتمين والمختصين من قضاة وأكاديميين, لدراسة هذا الموضوع بأبعاده الفقهية والسلوكية, وقام مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة بجامعة الإمام لدراسة مسألة الإلزام بالأعمال التطوعية في العقوبة التعزيرية, ومن خلال النظر فيما طرحه الحاضرون من أوراق عمل, وبعد تأمل المناقشات الدائرة في هذه الحلقة, تشكلت لي رؤية فقهية حول هذا الموضوع, وهو أن التعزير بالأعمال التطوعية ينبغي ألا يكون بالعبادات المحضة, لما للعبادة من خصوصية بين العبد وربه, ولأن الإلزام بالعبادة على سبيل التعزير هو في الواقع يعكس مقصد الشارع, حيث إن عادة النفوس أن تنفر مما يفرض عليها ويكون على وجه الإلزام, والعبادة يجب أن يقدم عليها العبد طوعا لا كرها, ولا يصح أن تقاس العقوبات التعزيرية على إيجاب كفارة الصيام في الظهار والوطء في نهار الصوم؛ لسببين رئيسيين: الأول: أن كفارة الصيام جاءت كعقوبة على ترك الصيام في نهار الصوم, فهي عقوبة من جنس المخالفة, وفي الظهار حلفٌ على ترك الوطء بتحريم الزوجة كتحريم الأم والأخت, فجاءت العقوبة متناغمة مع الجرم, ثم إن عقوبة الكفارة جاءت من الشارع, ويؤديها المكفر بالصيام فيما بينه وبين الله, فعين الرقيب من الخالق, لا من الخلق, وهذا فرق جوهري في نظري.
ومن هنا فإنه يمكن الاستعاضة عن هذه العقوبات, بعقوبات أخرى تمس خدمة المجتمع, كخدمة المرضى والأيتام والفقراء, أو خدمة عامة الناس في مكاتب الخدمات الاجتماعية, وجمعيات البر, وغيرها.
ولكن لا بد من ملاحظة قضية مهمة جدا, وهو أن تكون هذه العقوبات مقننة تحت درجات مختلفة بحسب المخالفة, وبهامش من الاجتهاد للقاضي؛ كي يعطي كل حالة ما تستحقه من عقوبة حسب ملابساتها.., وأن يكون ذلك بآلية معينة, واضحة المعالم, يتحقق معها مقصد الشارع من الردع والزجر.