استقرار سعر صرف الريال وعلاقته بالدولار.. موثوقيه وحماية من المضاربة
خلفت موجة التضخم التي اجتاحت دول الخليج في الفترة ما بين 2007 -2008 جدلا يبدو لا نهاية له حول مسألة التخلي عن الربط التاريخي لأسعار عملات هذه الدول بالدولار الأمريكي. وقد أسفر تباين الدورات الاقتصادية بين الولايات المتحدة ومنطقة الخليج، إلى جانب الاعتقاد بحتمية التحول إلى نظام سعر صرف مختلف في وقت ما في المستقبل، عن سيل من التكهنات حول النهاية الوشيكة لنظام سعر الصرف الحالي الذي أثبت نجاحا مشهودا. ولإبراز الجانب السلبي – ولاسيما أن لكل عملة وجهين! - فقد اختار العديد من المعلقين تجاهل الجانب الإيجابي. ومن أبرز العناصر الإيجابية عنصرا الموثوقية والاستقرار اللذان أوجدهما الالتزام المستمر والطويل الأمد باستقرار نظام سعر الصرف. لكن السؤال المعقول في ظل الظروف السائدة لا يتعلق كثيرا بمسألة ما هو سعر الصرف «المثالي»، بل بمسألة ما إذا كانت فوائد التخلي عن السياسة الحالية تفوق تكاليف ذلك أم لا.
وقد أدركت من خلال انخراطي لما يربو على 20 عاما في العمل المهني في الأسواق المالية أن الفوائد المترتبة على أي تغييرات تكتيكية في سياسة الصرف الأجنبي عادة ما تتلاشى أمام الضرر الذي يحتمل أن يسببه الاعتقاد بحدوث تراجع في الموثوقية الذي تحدثه لا محالة أي محاولة للنظر في مثل تلك التغيرات. فالسياسة تكتسب مصداقيتها من مصداقية الإجراءات التي تدعمها. وتوضيحا لوجهة نظري، أود أن أذكر ثلاثة أمثلة من منطقتنا: مصر ولبنان والسعودية، وهي دول اختارت جميعها في وقت ما ربط عملاتها بالدولار وحرصت بقوة على التمسك بذلك في جميع الظروف، وما لبث أن خضع ذلك الحزم للاختبار من قبل المضاربين عندما بدأت الهجمات على عملات الأسواق الناشئة في أواخر التسعينيات. عندها عمدت كل من لبنان والسعودية إلى استخدام احتياطياتها من العملات الأجنبية للدفاع عن عملاتها المحلية وقام البنك المركزي في كل منهما بتوفير الدولار لجميع المؤسسات المالية التي طلبت ذلك. أما مصر، من الناحية الأخرى، وسعيا منها لحماية احتياطياتها من النقد الأجنبي، والتي بلغت في ذلك الوقت نحو 20 مليار دولار، فقد لجأت إلى اتخاذ تدابير مختلفة أدت إلى الحد من توافر الدولار في الاقتصاد.
في عام 2001، قمت بزيارة لمحافظ البنك المركزي المصري في ذلك الحين، الأستاذ إسماعيل حسن، وحاولت إقناعه بأن ربط العملة المحلية بالدولار كان فعلا في مصلحة مصر على المدى الطويل، وبالتالي ينبغي على البنك أن يتيح احتياطياته أمام المصارف وفقا لسياسته المعلنة. وقلت للسيد المحافظ حينها أنه كان لدينا 700 مليون دولار مستثمرة في لبنان مقابل خمسة ملايين دولار فقط في مصر، بالرغم من أن معظم مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر كانت أفضل، والفرق الجوهري الوحيد بين البلدين كان يكمن في سياسة إدارة العملة. رفضت حجتنا وانتهى الاجتماع بعد أقل من 15 دقيقة. وبعد بضعة أشهر، اضطرت مصر إلى خفض قيمة عملتها وفي الوقت ذاته إلى استنزاف احتياطياتها حتى تراجعت إلى 13 مليار دولار. أما لبنان، وعلى النقيض من ذلك، فقد بقي متمسكا بنفس سعر الصرف حتى يومنا هذا، وما زال يتمتع باحتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية رغم تفاقم عبء الدين الحكومي وتزايد حدة المشاكل السياسية.
كلنا نتذكر المضاربة ضد الريال السعودي في الثمانينيات والتسعينيات، لكن ما حافظ على استقرار قيمة العملة السعودية في تلك الأوقات العصيبة هو الالتزام الثابت والواضح من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي بالتمسك بسياستها وتوفير الدولار لجميع البنوك التي أرادت أن تبيع الريال بالسعر الرسمي المعلن، فحالت تلك السياسة بالتالي دون نشوء سوق سوداء. ولم تبد السعودية - مع بعض دول الخليج الأخرى - أي تراخ في التزامها بربط عملتها بالدولار خلال فترة التضخم الأخيرة، إلى أن نجحت في نهاية المطاف في كبح ضغوط المضاربة.
إن أكثر ما يؤجج حمى المضاربة ليس المضاربين الدوليين، بل المشاركين في السوق المحلية الذين يبدأون في بيع العملة المحلية عندما يفقدون الثقة في سعر صرفها السائد. وأي تغيير في سياسة العملة، سواء كان باتجاه خفض قيمة العملة أو رفعها، سيؤدي حتما إلى إطلاق شائعات تخلق انطباعا بأن التزام السلطات بسعر الصرف ليس التزاما مطلقا لا يتغير - وأن ما فعلته مرة يمكن أن تفعله مرة أخرى. وهذه الحالة من عدم اليقين لها بدورها دون شك مضاعفات على الاقتصاد الكلي: فالقرارات المتعلقة بالتعاملات التجارية يتم تأخيرها أو تعديلها أو التخلي عنها نهائيا بسبب مخاطر سعر الصرف. وبطبيعة الحال، فإن الدول التي تسعى إلى اجتذاب مستثمرين دوليين والحصول على ديون طويلة الأجل لمشاريع البنية التحتية لا تقبل التورط في هكذا فخ. وإذا كان هدف السياسة النقدية تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فلا بد أن يكون استقرار سعر الصرف جزءا من هذه السياسة إذا ما أردنا المحافظة على المصداقية.
في ظل الوضع الراهن لدول مجلس التعاون الخليجي والأسواق المالية وأسعار الصرف الحقيقية لعملات المنطقة، يمكن القول إنه ليس هناك من بدائل واضحة أفضل من متابعة الالتزام بسياسة ربط عملتها بالدولار. ومع تحضير البنوك المركزية للاتحاد النقدي الخليجي، فإنها ستفعل كل ما بوسعها للمحافظة على سجلها الناجح في رسم سياسة واضحة لسعر الصرف ومن ثم التمسك بها، بينما سيظل عنصر الثقة بالعملات المحلية للمنطقة بدوره مصدر دعم رئيسي لخطط التنمية الاقتصادية الطموحة لدول المنطقة.