أما آن للتعليم الفني أن يتطور؟
افتتحت الدولة حفظها الله معاهد التدريب الفني في المملكة منذ أكثر من أربعين عاما، وهي تتوسع من ذلك الحين، وتستوعب اليوم عشرات الألوف من الطلبة وقليلا من الطالبات. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، بعد مضي تلك المدة الطويلة على إنشاء مرافق التدريب، هل بلغت ولو الحد الأدنى من النجاح المرجو منها؟ كثيرون يشكُّون في ذلك، بدليل كثرة ما يُنشر في الصحف من تساؤلات وانتقادات، إلى جانب عدم وجود ظهور مُتميز لخرِّيجي المعاهد الفنية في المصانع المحلية والمؤسسات الخدمية وأعمال الصيانة. ونخشى أن سياسة المؤسسة العامة للتدريب الفني تُركز على الكم أكثر من اهتمامها بالكيف، وإن كان الكم مطلوبا أيضا ولكن ليس على حساب مستوى التدريب. أين هي الأعداد الهائلة التي كان من المفروض أنها تخرجت في معاهد التدريب المهني؟ وهل هناك برنامج مُتابعة من قبل المؤسسة التي تتولى التدريب، للتأكد من أن الشباب الذين أنهوا الدراسة قد وجدوا فعلاً أعمالاً تُناسب تخصصاتهم؟ أم أن المهم لدي طالب الدراسة المهنية مجرد تسلم المكافأة خلال مُدة الدراسة؟ أسئلة كثيرة تطوف بمخيلتنا عند ما نشاهد المجهود الكبير الذي يبذله المسئولون في المؤسسة ولا نرى لذلك أثراً يُذكر في بيئات العمل.
والتدريب المهني يجب أن يكون مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بكثير من المؤسسات الصناعية والخدمية التي تستقدم الآن مئات الألوف من العمالة الأجنبية، عن طريق اتفاقيات بين الطرفين يكون مضمونها قبول المؤسسات للطلاب أثناء مراحل الدراسة للعمل فيها كمتدربين فترات معينة كجزء من دراستهم الأساسية في معاهد التدريب. فترات التدريب العملي هذه في المرافق الصناعية سوف يكون لها فوائد كثيرة من جانب الطرفين، الطالب المُتدرِّب وصاحب المُنشأة فالأول تكون لديه فرصة التعرف على شخصية المتدرب وعلى قدراته ومدى انضباطه في العمل وسرعة استيعابه للمهام التي تُوكل إليه. أما الطرف الآخر، فسوف يكون وجوده على رأس العمل فترة من الزمن وهو لا يزال في المرحلة الدراسية أكبر حافز له على الإبداع وتعلُّم المهنة، وفي الوقت نفسه يستفيد من مخالطة العاملين في المؤسسة وزملاء المستقبل. والفترة الزمنية للتدريب العملي يجب ألا تقل عن ستة أشهر، إن لم تكن أكثر، حتى تكون ذات أثر فعال. وربما أن هذا الذي نقوله ونقترحه تقوم به اليوم مؤسسة التعليم الفني والتقني، أو أنه من ضمن مُخططاتها المستقبلية، ومهما يكن الأمر فهو من أهم ضرورات التدريب.
ولعل من أهم ضمانات نجاح برامج التدريب المهني المتابعة المستمرة لسير أمور الطلاب بعد انتهاء مراحل التدريب وخروجهم إلى ميدان العمل من قِبل مؤسسة التدريب، من أجل التأكد والاطمئنان على حصولهم على وظائف مناسبة لتخصصاتهم، إلى جانب الاستماع إلى آراء مُستخدميهم التي ربما تُفيد في تطوير برامج التدريب. نحن نعلم أن هذه ليست مُهمة سهلة وأنها فوق ذلك مُكلفة، ولكنها ضرورية إذا أردنا أن تكون برامج التدريب المهني والفني ناجحة وتُؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله. ومن غير المنطقي ولا المقبول ألا نشاهد خريجي المعاهد الفنية يعملون في مؤسسات صناعية كبرى مثل شركة أرامكو السعودية. نحن نعلم سبب عدم قبول الشركة هؤلاء الخريجين، لأن تدريبهم وتأهيلهم لا يرقى إلى الحد الأدنى من مُتطلبات العمل في الشركة فالشركة عند ما تحتاج إلى موظفي تشغيل وصيانة، تختار الأفضل من بين عشرات الألوف من المتقدمين الذين عادة يحملون شهادة الثانوية العامة وبتفوق. وتدخلهم معاهد التدريب المكثف، وهو ما يستغرق ثلاث إلى أربع سنوات، مع التركيز على إتقان اللغة الإنجليزية. يتبع ذلك تدريب عملي داخل المعامل سنوات أخرى حتى يتأهل الطالب لتسلم المركز الذي يناسب تخصصه فلماذا لا تقوم مؤسسة التدريب المهني بالاتفاق مع الشركات الصناعية الكبرى، “أرامكو” وغيرها، من أجل تصميم برامج تدريب خاصة تُلبي حاجة تلك الشركات واختيار الطلبة بالمقياس نفسه الذي تتبعه “أرامكو”، مع ضمان توظيف منْ يُكمل البرنامج بتفوق؟ ومن المعلوم أن ذلك سوف يتطلب أيضا وجود مراكز جديدة للتدريب ونوعية خاصة من المدربين المؤهلين تأهيلاً عالياً، مع الإشراف غير المباشر من قبل الشركات التي سوف تستقبلهم بعد التخرج.
التعليم الفني والتقني هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها النهضة الصناعية في مُختلف المجالات. وإذا لم تتوافر الأيدي الوطنية المدرَّبة فالخيار المُتاح هو استقدام عمالة أجنبية، كما هي الحال في جميع الدول الخليجية. والكل يعلم مدى التأثير السلبي الذي يسببه وجود الأعداد الهائلة من تلك العمالة بيننا اقتصادياًّ واجتماعياًّ. وهذا ما يحفزنا على رفع مستوى تدريب وتطوير العنصر الوطني ليحل مكان العاملين من غير المواطنين. ولكن هناك عامل آخر ومهم فيما يتعلق بتشجيع وترغيب الشاب المواطن الجاد على التوجه نحو التعليم الفني، وهو مقدار المُرتب الذي سوف يتقاضاه بعد التخرج فالذي نراه اليوم أن الرواتب التي تُمنح لخريجي المعاهد الفنية ضئيلة بالنسبة لنوعية الأعمال التي يقومون بها، ولارتفاع مستوى المعيشة في بلداننا الخليجية، وهم في الغالب مُقبلون على الزواج والاستقلال عن عائليهم. وتدني الرواتب بالنسبة للمواطن لا يُبرره كون أصحاب المُنشآت لديهم الحرية الكاملة في استقدام عمالة رخيصة، تنفعهم وتضُر البلد اقتصادياًّ واجتماعياًّ.
وكنت قد ذكرت في مقال سابق ضرورة حماية حق المواطن في أفضلية التوظيف، وذلك بإضافة عامل جديد ضمن الموافقة الرسمية على إنشاء المُنشأة فالعادة أنه قبل التصريح لأي مشروع صناعي كبير يُطلب من صاحب المشروع تقديم دراسة الجدوى الاقتصادية التي على أساسها يقرِّر تنفيذ مشروعه، والتي يجب أن تكون مبنية على تشغيل نسبة كبيرة من المواطنين برواتب مُجزية وتتناسب مع مُتطلبات الحياة في المملكة. وإذا وجد أصحاب المشاريع أن هذا الشرط لا يُناسبهم أو أنه يُقلل من أرباحهم فلا ضير عليهم أن يتركوها لمنْ يقبله. أما ما هو حاصل اليوم من أن كل من هب ودب ينشئ من المرافق الصناعية ما يشاء دون التزام مُوثق بتوظيف نسبة كبيرة من السعوديين من البداية وبرواتب مُعتدلة، فهو أمر غير مقبول، ونقول لأصحاب الأعمال إن لأبناء وطنكم عليكم حقا. وهناك رأي آخر حول إجبار المؤسسات الصناعية على توظيف نسبة مقبولة من أبناء الوطن بالشروط المذكورة أعلاه، وهو ألا تقدم صناديق التنمية الحكومية مساعداتها السخية إلا بعد التأكد من قبول المؤسسات تنفيذ إجراءات توظيف النسبة المطلوبة من المواطنين.