ثقافة المجتمع السعودي .. دافعة أم معوقة؟
مختصر مفهوم الثقافة كما يبدو لي بعد الاطلاع على عدة تعاريف هي منظومة القيم والمفاهيم والمعارف وأساليب التفكير الحاكمة للسلوك، والثقافة المشتركة لمواطني دولة أو أفراد منظمة ما، هي نموذج القيم والمفاهيم والمعارف وأساليب التفكير داخل الدولة أو المؤسسة، وهذه الأشياء التي تكوّن الثقافة المشتركة قد تكون غير واضحة، ولكنها في غياب شكل التعليمات المباشرة تحدد الطريقة التي يتصرف بها الأفراد والطريقة التي يتفاعلون بها، كما أنها تؤثر بشدة في الأساليب التي يتم بها إنجاز الأعمال، ومن هنا نشأت أهمية السيطرة على الحراك الثقافي وتشكيله بما يولد ثقافة تدفع الأفراد لسلوكيات مرغوبة بالمحصلة، تدعم خطط النمو والتنمية بدل أن تعوقها.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل ثقافة المجتمع السعودي ثقافة دافعة للنمو والتنمية أم معوقة لهما؟ هذا السؤال يستدعي تحليل الثقافة عن طريق عمل الاستقراءات والتقييمات والمناقشات التي تتم في مجموعات أو ورش للعمل، وكوني كاتبا في الشأن الاقتصادي، وأعتقد أن الثقافة ذات أثر عميق في التنمية الاقتصادية التي يقودها خادم الحرمين الشريفين في بلادنا، ولا طاقة لي بإجراء مثل هذا التحليل العلمي المنهجي، حاولت ومجموعة من الأصدقاء المهتمين بالشأن الاقتصادي أن نحلل ثقافة المجتمع السعودي لنعرف ما إذا كانت هذه الثقافة دافعة أم معوقة، لنطرح حلا مقترحا إذا كانت ثقافتنا غير فاعلة.
ما توصلنا إليه بعد طول حوار أن المجتمع السعودي مجتمع نشط ومتفاعل، والدلائل على ذلك كثيرة، ليس أقلها مشاركات السعوديين في جميع البرامج الفضائية أيا كان نوعها، ولكنه في اللحظة نفسها شعب ينظر للخلف ولمئات السنين أكثر مما ينظر إلى الأمام ولو إلى 20 عاما مقبلة، وهو ما يجعل أفراده يوغلون في دراسة الماضي سواء ماضي الأمة أو البلد أو القبيلة أو العائلة، لا لاستلهام العبر منه للتصدي للواقع والتخطيط للمستقبل القريب والبعيد، بل للعيش فيه والتفاخر بأمجاده مع التركيز على أمجاد الأسلاف التي تتمحور حول الشجاعة والكرم والفصاحة، أما الصناعة التي نهضت باقتصاديات الدول الصناعية المتقدمة فعار مجتمعي نسعى جميعا لئلا يلتصق بنا.
هذا الواقع الثقافي المؤلم متوقع، ذلك أن الثروة المالية الكبيرة التي هبطت علينا بفعل تطوير الدول الصناعية لصناعات تحتاج إلى النفط كمصدر للطاقة لم تكن بفعل تطور تراكمي قام به أفراد المجتمع السعودي عبر خط الزمن، يمكن لمن حققه أن يفخر به، حيث يمكن لمن طور صناعة الطائرات أو صناعة السيارات أو صناعة الأدوية إلى غير ذلك من المجالات أن يفخر بما طوره، وبالتالي لم نجد أمامنا من وسيلة للفخر سوى الرجوع للماضي حتى وإن كان لقرون مضت وقيمه الأساسية ومفاهيمها (الشجاعة ، الكرم ، الفصاحة) والتغني بأبطالها مع الحرص الشديد على إظهار ارتباطنا نسبا بهؤلاء الأبطال وتبنينا لقيمهم ومفاهيمهم وأساليب تفكيرهم فكرا وسلوكا، وفي ظني أننا أمام ثقافة معوقة للتنمية الاقتصادية التي نستهدف ما لم نسارع لمعالجتها من خلال حراك ثقافي برؤية ونكهة اقتصادية.
كثيرا ما نسمع عن الحفاظ على التراث، وللأمانة أنا من الذين يشعرون بأننا ما زلنا نعيش بالتراث ولم نغادره فكرا وسلوكا وإن غادرناه من الناحية المادية، وبالتالي أعتقد أننا في حاجة للانتقال للحضارة فكرا وسلوكا أكثر مما نحتاج للحفاظ على التراث المادي، وإن كان الأخير مهم أيضا، ولكن يجب الموازنة بين جهود الانتقال للحضارة والمحافظة على التراث حسب متطلبات التنمية وهو أمر ممكن، فعلى سبيل المثال يمكن أن نحافظ على الإبل كتراث من خلال تحويل مشاريع تربية الإبل إلى مشاريع اقتصادية مربحة ترتبط بصناعة الألبان والمنسوجات والجلديات وتوفير اللحوم للأسواق بشكل مستدام وبأسعار في متناول اليد واستثمار برامج ''مزايين الإبل'' كبرامج سياحية ترفيهية بعيدا عن المفاخرة بالأنساب، وهنا نكون قد عززنا قيم ومفاهيم الإنتاج والعمل والعطاء والتخطيط والتسويق والبحوث والتطوير، وهي أمور داعمة لخطط التنمية الاقتصادية لا معوقة لها كما هو الوضع الحالي، وعندها نتيح الفرصة لبروز أسماء يحق لها أن تفخر بتطوير تربية وإنتاج الإبل وتطوير الصناعات اللصيقة بها.
أيضا قيمة الشجاعة يمكن أن نطورها إلى قيمة القوة المرتبطة بقيمة الكرامة في جميع المجالات خصوصا القوة الاقتصادية في قطاعات الإنتاج كافة بما يؤصل لقوة دافعة إلى اقتصاد قوي ومتين كما هو وضع اليابان التي تخلت عن القوة العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية وتحللت من كل تبعات تلك الحرب وثقافتها واتجهت للقوة الاقتصادية حتى أصبحت من الـسبعة الكبار مع مثيلتها ألمانيا التي استطاعت التوحد من جديد دون إطلاق طلقة واحدة من خلال التنمية الاقتصادية، وأعتقد أنه حان الوقت لأن تقوم حكومتنا الرشيدة من خلال أجهزتها ومن خلال تشجيعها للقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني بإقامة أنشطة وبرامج ومشاريع تفتح عيون أفراد المجتمع على المستقبل بفرصه وتهديداته ليُقبل على اغتنام الفرص ويعمل على تجنب المخاطر من خلال التفكير العلمي المنهجي والعمل الدءوب والمتواصل والذكي بدل الانشغال بالتفكير بالماضي ومحاولة التفاخر بما لم يعد صالحا للحاضر والمستقبل بسبب تغير قواعد اللعبة.
ختاما: أعتقد أنه حان الوقت لتقوم إحدى الجهات الحكومية بتسلم زمام المبادرة لإعادة تشكيل ثقافة أفراد المجتمع السعودي ليدور بنظره وجهوده إلى الأمام لأكثر من 20 عاما مقبلة على الأقل، من خلال تطوير وتنفيذ الخطط والبرامج اللازمة للتعامل مع مشكلة النظر للخلف وأسبابها لتتوافق نظرة المجتمع مع نظرة القيادة المستقبلية لإيجاد بيئة تساعد على تطوير الأداء وتوفر إدارة التغيير، ليتصرف الأفراد ويتفاعلوا مع خطط التنمية الطموحة كما هو مطلوب بما يعزز فرص نجاحها، في ظل إنفاق حكومي تنموي غير مسبوق.