رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


دم البعوض وحقوق الإنسان

يبدو أن قيمة الإنسان مرتبطة بالمجتمع الذي ينتمي إليه, أو بالدين الذي يعتنقه في نظر الثقافة الغريبة التي كثيراً ما تردد وسائل إعلامها, وسياسيوها ضرورة احترام حقوق الإنسان, وإظهار حرصهم على هذا الشأن حتى أن الولايات المتحدة تصدر سنوياً قائمة تصنف فيها الدول حسب احترامها لحقوق الإنسان, لكن أحداً لم يطرح لا داخل أمريكا, ولا خارجها معنى, ومفهوم حقوق الإنسان, ولا المؤشرات الدالة عليه, والضوابط الواجب توافرها حتى نضمن احترام حقوق الإنسان ليس في بقعة جغرافية فحسب, أو مجتمع دون مجتمع, أو لون وجنس دون لون وجنس آخر. الواقع بشأن حقوق الإنسان يؤكد ازدواجية المعايير إذ إن الغرب تثور ثائرته, ويزمجر, ويرعد حين تمس كرامة فرد من أبنائه, أو هكذا يصور الوضع بأنه مساس بكرامة الإنسان, بينما مئات بل آلاف وملايين تداس كرامتهم, وتهان في أماكن أخرى من العالم لا يعلم بهم أحد, ولا تتحرك حمية الغرب بشأنهم, ولا يتحرك إعلامه, أو يصرح مسؤولوه, ويتوعدون, لا لشيء إلا أن هؤلاء من جنس آخر, ومن ديانة أخرى.
الاستثناء في هذه القاعدة يكون حين تكون هناك مصالح للغرب يكون التحرك, وتكون ردود الفعل العنيفة كما هو الحال في دارفور التي يرى الغرب امتهان حقوق الإنسان فيها, ويطالب بإيقاع أشد العقوبات, ويفرض الحصار, ويدعم التمرد نكاية بالحكومة السودانية التي أعطت حقوق التنقيب عن النفط للشركات الصينية بدلاً من الغربية, وبالأخص الأمريكية.
الغرب يمتهن حقوق الإنسان, وينتزع حياة البشر بإزهاق أرواحهم في أماكن كثيرة من العالم لكنه يسمي هذا تحريراً لتلك الشعوب, وحرباً على الإرهاب, وهذا ما يحدث ليل نهار في العراق, وأفغانستان, وباكستان حيث يسقط المدنيون كل يوم بفعل الصواريخ التي ترمي بها الطائرات دون طيار, والتي تجوب سماء هذه الدول. أما لو تحرك أبناء هذه المجتمعات للدفاع عن أنفسهم وحماية ممتلكاتهم, والدفاع عن كرامتهم, ومواجهة الغازي لبلادهم لصور هؤلاء بالإرهابيين, والمتشددين, والمتمردين, وتطول قائمة الأوصاف.
مع عيد الميلاد عرضت حركة طالبان الأفغانية عبر وسائل الإعلام شريطاً يظهر فيه الجندي الأمريكي المحتجز لديها, وما إن صدر الشريط حتى جاءت ردود الفعل العنيفة, والشنيعة, واستنكر العمل بأشد عبارات الاستنكار, وأعنفها, لقد صرح ضابط أمريكي رفيع المستوى بأن تصوير الجندي الأمريكي الأسير في يوم الميلاد يمثل إهانة للتعاليم الإسلامية, كما أن «إيساف» استنكرت تصوير الجندي ونددت بالفعل لما يتضمنه من معنى الإهانة, والإذلال.
أمر عجيب, وأمر محير تصوير جندي محتجز يمثل امتهاناً لكرامة إنسان, وتطاولاً على قيمته في حين الملايين يهانون صباح مساء على أيدي زملاء الجندي المحتجز بل يقتل النساء, والأطفال, والشيوخ لكن هذه الأفعال الشنيعة ما هي إلا أفعال مجيدة في نظر الغرب لأنها تتم بهدف تحقيق الحرية, والديموقراطية. لنتوقف عند هذا الحدث, هل طالبان قبضت على الجندي الأمريكي داخل الأراضي الأمريكية؟! كلا الجندي احتجز, وتم القبض عليه داخل الأراضي الأفغانية, وهو في حالة حرب أي أنه أسير حرب جاء من بلاده على بعد آلاف الأميال لقتال الأفغان وإيذائهم في عقر دارهم, كما أن تصويره ليس فيه إهانة, أو إيذاء, وإنما قد يفهم فهماً إيجابياً، حيث يعطي الطمأنينة لأهله, وذويه بأنه حي يرزق, وفي صحة جيدة. ردود الفعل من هذا النوع تتكرر كلما كان الطرف المعتقل غربياً, الجميع يتذكر صورة الجنود الأمريكيين الذين تم اعتقالهم من قبل القوات العراقية حين غزت أمريكا العراق عام 2003 وظهروا, وهم يأكلون بعض البسكويت, ويشربون الماء, لقد تم تصوير هذا الفعل باللامتحضر, وبإهانة البشر, والتعدي على حقوقهم وإنسانيتهم.
مفارقات عجيبة, غريبة يصعب على العقل السوي استيعابها, الجنود الأمريكان يقتلون بدم بارد, ويغتصبون كما حدث في مسجد الفلوجة حين قتلوا المصلين, وحين اغتصبوا فتاة مدينة حديثة, وقتلوا أهلها, وحين قتلت شركة بلاك ووتر 17 مدنياً, وتم تبرئة القتلة من المحكمة الأمريكية في حين يكون إظهار أسير الحرب على شريط فيديو إهانة, وإذلالاً. مثل هذه المماحكات تذكر بمن يستفتي بشأن دم البعوض هل ينقض الوضوء, أم لا في حين أن ملابسه قد تكون متشربة بدماء بشرية, أو حيوانية, وهذا هو واقع حال الغرب الذي يهيمن بقوة السلاح, والعتاد الجبار على العالم, يقتل, ويدمر, ويحتل دولاً, ويهمش أخرى ثم حين تتم مقاومته يتهم المدافعين عن كرامتهم, وبلادهم, وخيراتهم بالوحشية, والإرهاب, والعنف, والتطرف, والتخلف.
المشكلة في يقيني تكمن في الثقافة التي تشكل عقل الإنسان الغربي مسؤولاً كان, أو فرداً عادياً, ثقافة قائمة على الازدواجية, ولذا فالإنسان وفق هذه الثقافة نوعون نوع يستحق الحياة الكريمة, والأمن, والاستقرار, والتعليم, والمعرفة, وامتلاك عناصر القوة, والسلاح, والصحة, أما النوع الثاني فهو لا يستحق إلا الإذلال, والقتل والتدمير لمرافق حياته ومصادر رزقه – كما حدث في العراق – وإن قدر له أن يعيش فليعش في نكد وشقاء, وحياة هامشية. هذا الوضع لا يمكن أن يتغير إلا بتغيير ثقافة الآخر الذي نصب نفسه حاكماً, مستعبداً, محتكراً لجميع مصادر القوة, ولا يرضى لغيره أن ينافسه على الصادرة وإن هو فعل ذلك فمصيره التدمير والهلاك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي