مخاطر اقتصادية مستقبلية

يتنفس العالم الصعداء بعد أن واجه أسوأ أزمة اقتصادية عالمية بعد أزمة الكساد الكبير في عام 1929م. إلا أن ما يميز هذه الأزمة ويزيد من مخاطرها هو سرعة انتقالها من دولة إلى أخرى، مما أضفى عليها خاصية الشمولية في كل أنحاء العالم. العالم واجه هذه الأزمة بشكل مختلف عن الأزمات الاقتصادية الأخرى، كأزمة النمور الآسيوية، حيث كان هناك تنسيق كبير بين دول العالم، خصوصاً دول مجموعة العشرين، مما أسهم بشكل كبير في الحد من أثر الأزمة سواءً المادي أو انحسار المدى الزمني لها. ولعبت الحكومات في ذلك الدور الرئيس من خلال حزم التحفيز الاقتصادي الكبيرة التي ضختها في اقتصاداتها، مما أسهم بشكل كبير في حفز الطلب وتوفير السيولة اللازمة لتعزيز النشاط الاقتصادي.
ومع انحسار الأزمة بشكل كبير، ومع تزايد الثقة بين أوساط المتعاملين، مما أثر بشكل كبير في تقليص فجوة أسعار الفائدة الحكومية والخاصة (الشركات)، تبرز تساؤلات كبيرة عن شكل التعافي الاقتصادي الحالي، وهل سيأخذ منحى متسارعا ليخرج العالم من الكساد بشكل سريع (حرف V)، أو هل سيأخذ التعافي الاقتصادي مرحلتين متتاليتين يتحسن النشاط الاقتصادي في الأولى لكنه يعاود التراجع قبل أن يخرج بشكل كامل من براثن الأزمة (حرف W). لكل افتراض مبرراته، لكن هناك ميلا كبيرا للافتراض الثاني أو ما يطلق عليه اصطلاحاً Double-Dip Recession. وهذا الافتراض يتضمن أن هناك مخاطر كثيرة مقبلة تواجه التعافي الاقتصادي الحالي وهي التي يمكن أن تؤدي إلى كبح جماحه ومن ثم الدخول في موجة ركود أخرى قبل الانتقال إلى تعاف اقتصادي مكتمل.
ولعلي هنا استعرض مظاهر هذه المخاطر التي قد تتسبب في عودة الاقتصاد العالمي إلى موجة كساد أخرى، وأولها خطر التضخم الذي يواجهه العالم بأسره. فحزم التحفيز المالي التي قدمتها دول مجموعة العشرين وحدها تعادل ما نسبته 1.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وبقيمة تقدر بـ 692 مليار دولار. أضف إلى ذلك أن أغلبية هذه الدول خفضت أسعار الفائدة بشكل كبير ولتبلغ في بعضها الصفر أو ما يقرب من الصفر. بالطبع هذا التحفيز المالي والنقدي سيكون له أثر كبير في حفز الطلب العالمي مما يهدد بدخول الاقتصاد العالمي مرحلة تضخم شديد كالذي شهدته الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات.
ومن المظاهر التي تعطي مؤشراً على ارتفاع محتمل في التضخم، ارتفاع أسعار الأصول، الذي بدأت بوادره واضحة في كل من أسواق الأسهم وأسواق السندات وأسعار كثير من السلع الأساسية. هذا الأمر يشكل هاجسا بالنسبة لواضعي السياسة الاقتصادية لكنهم لا يرغبون في التسرع بالحكم عليه لأن الأولوية الآن للتأكد من خروج الاقتصاد العالمي من نفق الركود الاقتصادي. لذلك، فإن هناك ترددا كبيرا في الإعلان عن سحب الدعم الحكومي لأن ذلك قد يؤدي إلى نتائج عكسية على وتيرة التعافي الاقتصادي. بعض الدول بدأت فعلاً في تنفيذ سياسة مبكرة للخروج من الدعم الحكومي ومنها أستراليا التي رفعت سعر الفائدة من 3.25 إلى 3.5 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، لكن يجب ملاحظة أنها لم تتأثر بشكل كبير من الأزمة بالمقارنة مع دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.
الخطر الثاني هو خطر البطالة المرتفعة في أوروبا والولايات المتحدة، إضافة إلى دول أخرى، حيث يهدد استمرار ارتفاع معدلاتها بكبح جماح النمو الاقتصادي من خلال الحد من الاستهلاك الخاص في هذه الدول. لكن من المعلوم تاريخياً أن معدل البطالة هو آخر المؤشرات الاقتصادية تحسناً لأن الشركات لا تتسرع في زيادة معدلات التوظف مع زيادة النشاط الاقتصادي، بل تكتفي بزيادة إنتاجية العاملين لديها إلى أن تتوافر لديها قناعة راسخة باستدامة الطلب. هذا الأمر أقلق الرئيس الأمريكي نفسه الذي يواجه ضغوطاً سياسية بسبب ارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذي جعله يدعو إلى منتدى الوظائف كوسيلة لحفز الشركات إلى زيادة فرص العمل. والدراسات توضح أن معدل البطالة بعد الأزمات يبلغ في المتوسط 7 في المائة ويستمر بين أربع وخمس سنوات.
خطر ثالث يهدد التعافي الاقتصادي الحالي هو زيادة مستويات الدين العام في دول العالم خصوصاً الدول المتقدمة، حيث استخدمت هذه الدول الدين العام لحفز النشاط الاقتصادي، مما فاقم عجوزات الموازنات المالية، وبالتالي زاد احتمالية تباطؤ النمو الاقتصادي المستقبلي في هذه الدول بسبب أعباء تلك الديون. ويشير الباحثان كارمن رينهارت وكينيث روقوف إلى أنه بدراسة 13 أزمة مالية سابقة وجد أن الدين العام ارتفع إلى ما نسبته 86 في المائة على مستوياته السابقة، وهذا الأمر بالطبع سيؤثر في قدرة الدول المستقبلية على زيادة الإنفاق العام، لأن جزءاً كبيراً من دخل تلك الدول يذهب إلى تسديد فوائد هذا الدين، وإذا ما عجزت هذه الدول عن الوفاء بتلك الفوائد، فسيؤدي ذلك بالطبع إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتلك الدول بشكل كبير، وبالتالي ستكون هناك صعوبة كبيرة لديها في الحصول على التمويل اللازم للإنفاق التنموي لديها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي